هل يوجد جهاد في المسيحية، ما حقيقة هذا الجهاد وكيف علينا أن نجاهد؟
"إن إلهك وُضِعَ على الصليب، فهل تبحث أنت عن الراحة؟!"
وفي زمننا هذا أعطت بعض الفئات شرعية لكل الوسائل بحجّة الجهاد، فيقتلون ويغتصبون ويزنون ويُعذّبون باسم الله ويحلّلون الشر على انه عمل الله!… حاشا ان تكون هذه ارادة الرب!
أما الجهاد بمفهومه المسيحي فهو أول شكل وأول مرحلة من مراحل قبول الصليب.
“الجهاد” ليس هو إلاَّ “الفرح”. فالمؤمن الذي يختبر العِشْرة مع المسيح يكون جهاده جهاداً مُفرحاً. والجهاد الصحيح يؤدِّي بصاحبه إلى مزيد من الاتزان الروحي والنفسي، ومن ثمَّ إلى حياة سوية متعقِّلة. والجهاد الحقيقي لابد وأن يكون مُفرحاً لأنه بواسطته يضع المسيحي أقدامه في أثر أقدام مخلِّصه المسيح. فهو يُشارك في نوع الحياة التي كان يحياها المسيح.
إن صُمنا او صلينا فهذا ليس لنا بل للمسيح فهو الذي يصوم فينا ويصلي ويسهر فينا لكي يهزم الشيطان ويُقيمنا بقيامته.
فنحن اعضاء في اعظم مُجاهد عبر كل الازمان !!
الجهاد يُنعش الروح القدس بداخلنا، فهو (الجهاد) الشافي من موت الخطيئة، وهو المحرِّر من عبودية الذات. وهو الذي يمهِّد الطريق لعمل الروح القدس المُفرح. غير أن الفرح الذي يولِّده الجهاد ليس أبداً فرحاً بشرياً، ولكنه فرح إلهي ليس من صميم طبيعتنا المادية.
الجهاد هو نقيض الكسل واللامبالاة. ويُعَدُّ الاعتراف بالخطايا جانباً مهماً من جوانب الجهاد المسيحي، إذ أنني في الاعتراف أقول للكنيسة: “أنا أعترض على الخطيئة وأنقض خيانة عهدي في المعمودية ضد الشيطان”. ويُعتبر الاعتراف هنا جهاداً لأننا نختبر فيه أولى مراحل الاتضاع، وبه أيضاً نلتمس العذر لعالم تسوده الخطيئة، فنصلِّي من أجله. ويُعَدُّ الاعتراف الخطوة الأولى لاستئصال الشر من العالم، لأن مَن يعترف بخطاياه بشكل صحيح يكون قد أزاح، ليس عن كاهله فقط، بل وعن كاهل البشرية كلها أيضاً، ثقل هذه الخطايا.
وهكذا بالنسبة لباقي أسرار الكنيسة، فإن الجهاد يجعلنا مستعدين أكثر فأكثر لننال ما بها من قوة.
في طريق الجهاد نُحقِّق المفارقة العجيبة والبديعة التي للصليب. فالجهاد، من جهةٍ، يعني وضع كل ميولنا الرديئة على صليب الموت، والتي منها شهوة الجسد وشهوة المال وشهوة التسلُّط وشهوة الكرامة… إلخ؛ ومن جهة أخرى، قبول قوة القيامة في حياتنا من خلال الروح القدس.
وبلوغنا هذه المفارقة يُقدِّس المجاهد بالمعنى الحقيقي للتقديس، إذ يُصيِّره، لا مجرد مُقلِّد لناسك أو لطريق نسكي بعينه، وإنما يربطه وثيقاً بسرِّ القيامة، فيستطيع أن يُمارس بل ويُعانق وَجْهَي الصليب: إذ يتضع حتى الموت، ويفرح إلى ملء فرح القيامة. وأشكال الجهاد المختلفة تمثِّل صلاة موجَّهة لله توضِّح كلماتها الفاعلة كيف أن طريق الإماتة هو نفسه طريق الحياة.
الحياة الحقيقية تكمن في قبول الآلام والضيقات والإيمان إيماناً مطلقاً في أن الله هو الذي يُدبِّر كل شيء حسناً من أجل تجميل ما شوَّهته الخطية. فالمسيحي يجب أن يقبل الضيقات كنعمة وكإكليل مجد فيَخِفَّ عليه الجهاد، وذلك كما يقول القديس بولس الرسول: “لأنه قد وُهِبَ لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط، بل أيضاً أن تتألَّموا لأجله. إذ لكم الجهاد عينه الذي رأيتموه فيَّ، والآن تسمعون فيَّ” (فيليبي 1: 29-30). فالذي يجاهد ويتألَّم من أجل المسيح ينال بركة عظيمة، إذ يُعتَبَر مدعوًّا من الظروف والأشخاص المحيطين به لكي يُنشئ علاقة حية قوية مع يسوع المسيح، ولكي أيضاً يدخل في مجال القيامة والحب الإلهي.
فالصليب، إذن، هو طريق القداسة، والقديس يوحنا ذهبي الفم أسهب في شرح هذا الموضوع، وأكَّد على أنه لا مسيحية بدون صليب، بدون اختيار حر وقبول عن رضا للألم كعطية، وهو يُبيِّن السبب إذ يقول: “إن إلهك وُضِعَ على الصليب، فهل تبحث أنت عن الراحة؟!” ثم إن القديس ذهبي الفم يدعونا، ليس فقط إلى قبول الصليب، بل وأيضاً إلى التمسُّك به، فيقول: “اربطوا ذواتكم بالصليب جيداً لدرجة لا تسمح لأحد أن ينزعه منكم…”.
فالجهاد في المسيحية ليس مجرد أعمال بشرية دون نعمة الله. فهو وإن كان عملاً بشرياً في ظاهره إلا أنه لا يعتمد على الإنسان في جوهره.
وإنما يعتمد على من قال “بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً”
فالجهاد الحقيقي في المسيحية هو جهاد الروح بالنعمة فيك ومعك ولأجلك إذ قال بولس الرسول “بالروح تميتون اعمال الجسد”(رو13:8). وقوله أيضا “لأن الله هو العامل فيكم”(فى13:2