الطفلة كارول تعطي الكبار درساً في المحبة والتضحية البطولية

نعم، الحمدلله ، ما زالت الدنيا بألف خير، بالرغم من الذين اتخذوا لهم في الحياة وظيفة البوم، لا ينعبون الا بالشؤم والويل. وللتدليل على أن الدنيا فيها الخير، يكفي أن ننظر كم من قلوب رقيقة فيها، ونفوس سخيّة، ما أن تشعر بالواجب الإنساني يناديها، حتّى تهرع الى تلبيته غير حاسبة لتضحية حساباً.
لكن من يبلّغ الى هذه النفوس والقلوب، نداءات الواجب الإنساني، ما دامت وسائل الأعلام في الدنيا الواسعة، مشغولة بنشر الفضائح وإحصاءات الإجرام، وتفصيل مغامرات الحب الأثيم الفاجر، وتضخيم هدير تيّار الجنس الجارف، والدعاية للمُتاجرات بالهوى والعار من فنانات وربّات جمال.
لا يزال في دنيانا نفوس كريمة، تسمو احياناً بتصرّفاتها الى مستوى البطولة التي ما بعدها بطولة. وأمثال هذه النفوس البطلية، تجدها أحياناً ، حتى بين أضعف خلق الله، بين الأطفال. وهل عبثاً قال عنهم المسيح: “دعوا الأطفال يأتون إليّ ولا تمنعوهم، لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات”.

من هؤلاء الأطفال مثلاً، الطفلة كارول سينكلير إبنة 11 سنة من ايرلندا، جزيرة القديسين، كما يسمّونها، والتي تشبه أطفالها، وأقرب ما يكون الشبه، ملائكة الجنّة، جمالاً ونضارة.
بطلتنا كارول لها أخ صغير 3 سنوات، اسمه بيتر. شاء له حظّه العاثر أن يصاب بداء في سلسلته الفقرية، يمنعه من المشي والحركة. وماذا يقول الطب؟ لا أمل في الشفاء، بل الموت المحتوم، وفي القريب العاجل. ولكن الأمّ، وكل أمّ، لا ترضى بأن تستسلم امام يأس الأطباء، ولا ترضى بأن تسلّم طفلها ثمرة أحشائها، لملاك الموت، ما دامت قادرة أن تضمّه الى قلبها وتخفيه بين حنايا حنانها.
ولما كان الإيرلنديون عموماً، جدّ متعبّدين للعذراء مريم، تمنّت هذه الأمّ المفجوعة حتى قبل أن يموت طفلها، تمنّت لو تستطيع أن تحمل الصغير وتذهب به الى مزار العذراء في “لورد” لتضعه تحت قدميها، في مياهها المتدفّقة دائماً بعجائب الأشفية.

ولكن من أين المال لهذه العائلة الفقيرة، لمثل هذه السفرة البعيدة الكثيرة النفقات؟ عرفت الطفلة كارول برغبة أمّها هذه، فأخذت رأسها الأشقر الصغير بين يديها، وراحت تفكّر وتفكّر في كيفية توفير المال لسفر والدتها مع الصغير بيتر.
ولمعت في رأسها فكرة، شعشعت لها عيناها الزرقاوان، وأفتر لها ثغرها الوردي، فراحت تنتظر بصبر نافذ ساعات الليل، لتحقّق ما تمخّض عنه عقلها الصغير.

وجاء الليل، وكان ذلك في الشتاء المنصرم، وافتقد الوالدان طفلتهما كارول، فلم يعثرا لها على أثر. عبثاً تعالت أصواتهما والإخوة الصغار، تنادي كارول في الحي وتطلبها عند الجيران. اختفت كارول، ولا أحد يعرف من أخبارها شيئاً. لكن كارول سبقت وتحوّطت للأمر، لئلا يستبدّ القلق بوالديها، فتركت على فراشها قصاصة ورق، كتبت عليها:
“بابا وماما الحبيبين
انا هاربة من البيت. وهكذا في إمكانكم أن توفّروا ما تنفقونه عليّ، لتأخذوا بيتر الى لورد، لعل مريم العذراء تشفيه.
قبلاتي الحلوة الى إخوتي بيتر وجون ومارك، واليكما بابا وماما”.

مرّت بضع ساعات على العائلة، لا يعلم غير الله ما قاسته فيها من قلق على الهاربة الصغيرة كارول. لم تبق عين إلا دمعت لهذه العاطفة النبيلة في مثل هذا السن. وراح الجيران بدافع نخوة وحنان، يطلبون كارول ما بين الأرض والسماء، يتحرّون كل درب وزاوية، ويسألون عنها كل عائلة. أخيراً لم يجدوا بداً من إخبار دائرة الشرطة بالأمر. وكل من سمع بهروبها والدافع الذي دفعها اليه، أكبرَ عاطفتها واغرورقت بالدموع عيناه. وبعد ساعات من بحث وتفتيش، عثرت عليها الشرطة، وأرجعوها الى البيت. اما كيفية دخولها البيت وارتمائها على صدر والديها، فليس من السهل وصفه… الدموع والقبلات، كانت اللغة الوحيدة التي تخاطب بها أفراد العائلة.

وقالت الأمّ لمن جاؤوا يعزّونها ويهنّئونها بعودة الهاربة:
“ان عمل كارول هذا، قد أفعم قلوبنا جميعاً بالحبّ والحنان. لله الشكر على أن عائلتي، يربط الحبّ العميق بين أفرادها. والجميع يعطف على الصغير بيتر ونحبّه حتى العبادة”.

وما عتم الخبر أن ذاع، وانطلقت الصحافة تُكبّر في الهاربة كارول، عملها البطولي، وتشيد بعجائب الحنان العائلي. وإذا بشركة الطيران (Aer Lingus) تتبرّع ببطاقة سفر الى لورد ذهاباً وإياباً بالمجّان. وليس للأمّ وطفلها المريض، ولكن أيضاً لكارول البطلة معهما. وانهالت على الأثر تقادم المحسنين لسدّ كل نفقات السفر للعائلة السعيدة بهذا الحنان الذي يربط بين أفرادها.
نعم، إنّها مخيفة، هذه الهاربة الصغيرة كارول! لأن عملها هذا ليشكو الى السماء أولئك الذين اتخمت جيوبهم المال، وتحجّرت منهم القلوب، فراحوا يتحظّون من إغراءات هذه الحضارة الشهوانية يدغدغون بها غرائزهم وأميالهم، في حين، إخوان لهم في الإنسانية، تفتك بهم الأمراض، ويرديهم الفقر، فرائس سهلة للبؤس والشقاء.

لقد قال يسوع في الإنجيل مهدّداً متوعّداً: “انه لأسهل أن يدخل الجمل في ثقب الإبرة، من أن يدخل غني ملكوت السماوات”. إن كان هذا الوعيد لا يكفي ليحرّك الضمائر “المكلكلة”، فهناك ما يخلع القلب من هلع، الا وهو قول يسوع في يوم الدين: “إذهبوا عني يا ملاعين الى النار الأبدية المعدّة لأبليس وملائكته لأني جعت… وعطشت… وكنت غريباً… وعرياناً… ومريضاً… ومحبوساً ولم تخدموني! إنّكم كلما لم تفعلوا ذلك بأحد هؤلاء الصغار، فبي لم تفعلوه!”