مختارات عالمية

راهبة وكاهن يحقّقان لشاب من أشهر المثليين أمنيته الأخيرة المفاجِئة! ماذا كانت وما هي نتيجتها!

اقترحت القناة الثانية الوطنية الفرنسية من بعض أعضاء جماعة التطويبات أن يشاركوا في برنامج يتناول موضوع المثليين … شعرت بقناعة داخلية بأنه علينا أن نلبي النداء. وكنت مدركة بالطبع أنه ما دعينا كجماعة كاثوليكية الى المشاركة إنما لكي يستخدمونا بهدف تسخيف الكنيسة الكاثوليكية. فشارك ثلاثة منا بهذه الحلقة من برنامج «نجوم في قفص الاتهام»: انا (الأخت إيمانويل مايار) طبيب وإكليركي.

تواجد معنا على المسرح أشخاص ضليعون في أمور المثليين في فرنسا: كاهن مثلي، قسّيس مثلي مسؤول عن هيكل إنجيلي حيث كان يبارك زواج المثليين. وقد عرض هذا الأخير فيلماً ليوضح أقواله (قُتل هذا القسيس فيما بعد بسبب أعمال منافية للأخلاق). وتواجد أيضاً كاتب ورجل قانون ودافيد جيرار وهو امبراطور الثقافة المثلية في الثمانينات ومؤسس شركة كبيرة في مجال الجنس والحيلة الليلية الباريسية للمثليين. وتتضمن مطاعم وخمّارات وحمامات البخار ومراكز التدليك والصحف…

وكان دافيد أكثر من شن علينا وعلى الكنيسة الكاثوليكية حرباً جارحة وقاسية. وراح يهاجمنا بخطبة لاذعة ومسمومة… تحوّل اتّجاه الحلقة كلها نحو تمجيد المثلية ومالت الى تبرير وضع المثليين بهدف سن قوانين جديدة تصب في صالحهم. غير أننا استطعنا تسجيل عدّة مواقف مهمة. ثم أطفئت الأنوار ونزلنا الى الطابق السفلي لنأخذ معاطفنا ونذهب كل منا الى منزله.

حينئذٍ حصل أمر غير متوقّع إطلاقاً: توجّه دافيد جيرار نحوي ليصافحني بحرارة. حدّق إلي وقال بنبرة أعدمت كل مجال للشك في صدقه: «اسمحي لي أن أقدّم لكم التهاني. لأنكم أنتم الثلاثة كنتم الوحيدين الذين يقولون الحقيقة على المسرح!»

أصابني الصمت من شدة الذهول! رأيت في نظرته بصيص طهارة صادقة. ثم اختفى مسرعاً في ظلمة الليل الحالكة وعدت انا مع إخوتي.

عندما عدت الى مديوغوريه، ترسّخت هذه الذكرى فيّ ولم أكفّ عن الصلاة من أجل دافيد وخاصة بسبب ذلك البريق الذي لمحته في نظرته. واستغرق هذا التضرّع العفوي حيّزاً كبيراً من الوقت حتى انتهيت الى طرح سؤال على نفسي: «هل يرغب الله في أن أقابل دافيد؟»

وقرّرت أن أحاول. حصلت على عنوانه ورقم هاتفه من القناة التلفزيونية وأرسلت إليه رسالة بسيطة قلت فيها إني أود أن أتعرّف إليه أكثر. فأجابني برسالة لطيفة يدعوني فيها الى مقهى الشاي الأرقى في شارع ريفولي «لانجلينا».

يا له من لقاء لا ينسى! شعر دافيد بالثقة وفتح لي قلبه. فاكتشفت تفاصيل طفولته ومراهقته التي لم ينشرها البتة. وفهمت ايضاً أنه لم يكن يفقه شيئاً على المستوى الديني. لا شيء مطلقاً! وراح يمطرني بالأسئلة عن الله. ونظراً للمنحى الممتاز الذي اتّخذه حديثنا. سمعت نفسي أطرح عليه السؤال الذي سكن عقلي ولساني منذ زمن:

– بعد الحلقة، حين ودّعتني، قلت لي «اني اقدّم لكم التهاني لأنكم الوحيدون الذين كنتم تقولون الحقيقة!» لماذا إذاً هاجمتنا بهذا الكمّ من الحدّة خلال الحلقة؟

– لأن جمهوري بأسره كان يشاهدني! كان عليّ أن أقوم بعملي! قمت بكل هذه التمثيلية من أجلهم. ولكني كنت مدركاً جداً في أعماقي أنكم الوحيدون الذين تفوّهتم بالحقيقة!

أظن أنه لم يدرك فظاعة ما باح به! فظاعة يجب أن نتذكّرها دائماً حتى في يومنا هذا!

انبهرت بحشرية دافيد وانفتاحه شبه البريء على الأمور المتعلّقة بالله. كان يقول لي على سبيل المثال: «هذا العالم قذر! ضقت ذرعاً من تلك القذارة! أنا أحب الطهارة! وبما أنه ليس لها مكان على هذه الأرض فإني أتشوّق لتركها! لن يصيبني شيء إن متّ شاباً فهذا العالم يثير اشمئزازي. أرى هذه الطهارة فيكِ. عليك فعلاً أن تظهري على الشاشة. فالعالم بحاجة لأن يرى أشخاصاً مثلك!»

كنت أقول لنفسي لو رآه جمهوره يتحدّث الى راهبة لسخر منه شرّ سخرية.

في النهاية علمت أنه مصاب بمرض السيدا (الإيدز). كان عليّ العودة الى مديوغوريه، لكني وعدته بأن أزوره مجدّداً عند مروري التالي في باريس.

بعد ثلاثة أشهر أعلمت دافيد أنني سأحضر وسيرافقني كاهن صديق. فاستقبلنا في منزله الخاص إذ كان لا يزال يعاني من الألم. استقبلنا دافيد بحرارة. لكني لاحظت بحزن أنه خسر نصف وزنه. كان عليّ أن أدرك أن هذا آخر لقاء لنا على الأرض. لم يتبقَّ لنا انا والكاهن، سوى ساعة واحدة لنحضّره للقائه مع خالقه ولنلخص له نهايات الإنسان الأخيرة.

تحدّثنا عن السماء والمطهر وجهنّم، وعن خلود النفس ورحمة الآب اللامتناهية ورغبة يسوع الجمّة في استقباله في قلبه المفعم حبّاً. أصغى دافيد بانتباه وحدّثته أيضاً عن قوّة الذبيحة الإلهية وغفران الخطايا والاختيار الحر الذي يقوم به كل إنسان لأبديّته في لحظة موته.

أما بالنسبة لصديقنا الكاهن، فقد استغرق في وصف واقعي لعمله مع الشبيبة… شهدت حينئذٍ على ما هو غير متوقع، يوازي أفضل ساعات من التبشير على جميع الأصعدة. نقاش أخوي بين «معبود المثليين» وذلك الكاهن الذي يعرض بهدوء محاسن العفّة بين الشبيبة. نشأت صداقة عظيمة بين هذين الرجلين اللذين أقل ما يقال فيهما إنهما سارا في طريقين مختلفين في الحياة. طرق الله مجبولة بالحنان!

أصغى دافيد الى كل كلمة كولد يكتشف العالم مع أبيه، ولا يلاحظ مرور الوقت على الرغم من إرهاقه الجسدي. قال لنا أخيراً وهو يشير الى حائط أبيض في صالونه: «أقول لله، ربي أنا ورقة بيضاء، أكتب عليها كل ما تشاء. أنا جاهز!»

كان علينا المغادرة ليتسنّى لدافيد أن يستريح. لكن عندما اجتزنا عتبة المنزل، استدار الكاهن وقال له: «يا أخي، لست بعيداً عن ملكوت الله!»

عند عودتي الى مديوغوريه لم يفارق دافيد صلاتي. وأثناء إقامتي التالية في باريس بعد بضعة أشهر. اتّصلت به في مكتبه. فأعلمني أحد معاونيه المقرّبين الذي التقيته سابقاً:

«للأسف أيتها الأخت! توفيّ دافيد منذ أربعة أيام ودفن في الأمس! للأسف لقد تأخرت قليلاً عليه! لكن يترتّب علي أن أعلمك أننا نحن أصدقاءه تأثرنا كثيراً بما قاله عنك وعن صديقك الذي رافقك لرؤيته. حتى وهو على فراش الموت لم يتوان عن القول إنه لم يلتقِ مطلقاً في حياته بأشخاص على مثالكما…

بالإضافة الى ذلك فاجأنا إذ طلب إلينا أن نحتفل بالذبيحة الإلهية على نيّته ما أن يفارق هذه الحياة! عيّره عدد كبير من أصدقائه قائلين: «ذبيحة إلهية! هل أنت مجنون! أصبحت كاثوليكياً الآن؟» أجابهم بحزم: «لم أطلب رأيكم. أريد أن تحتفلوا بالذبيحة الإلهية وعليكم التنفيذ».

طلبنا الإذن من الكنيسة حيث مدافن جدّته ووافق الكاهن بعدما طرح علينا بعض الأسئلة. واحتفل بالذبيحة الإلهية ثم توجّهنا الى المدافن».

بعد سماع ذلك، قرّرت أن أتصّل بكاهن تلك الرعية لأسأله كيف سارت مراسم الجنازة وكيف كان القداس الإلهي. فأجابني: «القداس الإلهي؟ لم نُقم قداساً! عندما عرفت سيرة حياة دافيد وطريقة عيشه… لم أرَ مجالاً لإقامة الذبيحة المقدّسة!»

تريّثت وأجبته بنبرة جافّة:
«إذاً ما الذي فعلته؟»

«تلوت صلاة بركة بسيطة. هذا كل شيء!»

«من شارك في هذه الصلاة؟»

«كان الجميع حاضراً. أصدقاؤه كلّهم… المثليين . كانت الكنيسة مكتظّة بالحضور. كانوا على الأقل مئتي شخص. يضع جميعهم أقراطاً…»

تمتمت كلمات الشكر وأنا تحت وقع الصدمة. صعُب عليّ أن أصدّق ما سمعت. 200 خروف لم تطأ أقدامهم الكنيسة قط وها هم مجتمعون في الكنيسة ولم يحتفل بالذبيحة الإلهية!!

أخذت للحال الهاتف واتصلت بالكاهن الذي رافقني لزيارة دافيد… فوافق على الاحتفال بالقداس بنفسه. لا نستطيع أن نسلب من دافيد قداسه حين أعلن رغم سخرية أصدقائه، أنه للمسيح وهو على فراش الموت. لقد نبض قلبه حبّاً بيسوع وقد فهم أهميّة القدّاس.

لا أعرف كيف تدبّر هذا الكاهن أمره ليجمع أكثر أصدقاء دافيد. وبعد فترة وجيزة احتفل بالذبيحة الإلهية في كنيسة القديس «لو» الصغيرة في أهم حيّ في باريس، حيث حضر حشد كبير من جمهور دافيد. وقد طلب مني أن أتلو كلمة قبل القداس. ثم قبل الصلاة الربّانية، تمدّد الكاهن على الأرض أمام المذبح وسأل الجماعة الحاضرة الغفران باسم الكنيسة عن كل مرة عبّر فيها الكهنة عن رفضهم للمثليين. فبكى الكثيرون بين الحضور.

نجح صديقنا الكاهن في البقاء على صلة مع عدد منهم. وهكذا في السنوات التي تلت، رافق روحياً عدداً كبيراً من الذين توفّوا متأثّرين بمرض السيدا. زارهم في المستشفى وساعدهم في العودة الى الله. وكان أحد أصدقاء دافيد مدير مسرح للمثليين يقع تماماً بالقرب من تلك الكنيسة. وقد ترك هذه الوظيفة بعد لقائه بذلك الكاهن.

فهمت إذاً لماذا دعانا الله للمشاركة في برنامج «نجوم في قفص الاتّهام». لم نكن نجوماً لكننا حملنا في داخلنا من هو شمس العدالة. وكانت تعلم هذه الشمس أن أحد أبنائها الأعزّاء على مسرح القناة الثانية متعطّش لشعاعها! أحد أبنائها يبحث عنها في ظلمة الحياة الحالكة من دون أن يدري.

شهادة الأخت إيمانويل مايار من كتابها – السلام صاحب الكلمة الأخيرة

اشترك بالنشرة البريدية للموقع

أدخل بريدك الإلكتروني للإشتراك في هذا الموقع لتستقبل أحدث المواضيع من خلال البريد الإلكتروني.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق