أخبارقصص القديسين

جندي ذهب إلى الهند راغبًا أن يلتقي بالأمّ تريزا لكن ما كان بانتظاره يفوق كل تصوّر!

يحلم جيم بلقاء الأمّ تريزا 

فهو معجب بهذه المرأة ويتحيّن منذ زمن بعيد الوقت المناسب للذهاب لمقابلتها.  يبلغ جيم الثانية والثلاثين من العمر، وهو رجل قوي ذو بنية متينة، كما يتمتع بصحة جيدة وبالفكر السليم الذي يملكه أفراد المارينز بالجيش الأمريكي.

السفر إلى كالكوتا

وقد جاءه “اليوم المنتظَر”: فلديه إجازة لمدة عشرة أيام، وها هو يغادر قاعدته العسكرية ليسافر إلى كالكوتا.  لقد تأثّر بالصدمة الثقافية حينما كانت سيارة الأجرة تشق طريقها من خلال متاهة من الشوارع الرطبة والحارقة والمُتربة في كالكوتا.  وقد وصل أمام باب دير راهبات الإرسالية الخيرية ودق الجرس.  ففتحت له الباب راهبة صغيرة ضئيلة الجسم.

“صباح الخير أيتها الأخت.  أنا قادم من بعيد وأود مقابلة الأمّ تريزا”.

“للأسف يا سيدي، الأمّ تريزا ليست ههنا، فقد اُضطُرَّت للسفر إلى روما”.

إنه الانهيار بالنسبة لجيم.  لقد قطع كل هذه الكيلومترات ليقابل شخصًا غير موجود.  بلع ريقه ثانيةً وحاول استيعاب خيبة الأمل وأعلن بعد فترة صمت:

“حسنًا، بما أني حاضر هنا، لماذا لا أبقى على أي حال؟  هل لي أن أساعدكم بأي شكل؟”.

“بالطبع!”.

من بين المهام التي يتم عرضها على المتطوعين، لم يجذبه كثيرًا الاهتمام بالمحتضرين، وهو لا يفقه شيئًا في أمور المطبخ.  فاختار إذن تنظيف البيت.

تم منحه حجرة صغيرة بجانب باب المدخل المؤدِّي إلى الشارع، غير أن ساعات الراحة الفعلية كانت نادرة لأن الضجيج كانت متواصلاً.  فآلات التنبيه الخاصة بعربات الريكشا لا تتوقف نهائيًّا.  طوال أسبوع، عمل جيم بأقصى طاقته.  بعيدًا عن الرخام البرّاق في أمريكا، موطنه، حاول أن ينسى خوفه المتأصّل فيه من التقاط الميكروبات. 

اللقاء مع الأمّ تريزا 

وبعد مرور أسبوع، علم بأن لديه يومًا حرًّا.  عظيم!  سوف يتيح له ذلك تجميع أفكاره والتحضير للمغادرة.  إلا أنه تم تكليفه بالقيام بفتح باب المدخل، وهو ما لم يَرُقْ له كثيرًا حيث لن يكون بإمكانه الخروج إلى المدينة.

في ذلك الصباح، دقّ الجرس، ففتح جيم الباب، ومن عساه يرى؟  إنها الأمّ تريزا بشخصها.  قال في نفسه: “هل أنا أتوهّم أم ماذا؟”.  رفعت الأمّ تريزا رأسها، وهي في نصف قامته تقريبًا، ونظرت إليه في عينيه مباشرةً.  إنها تشع طيبةً.  وبتلك اللكنة الألبانية المتفردة التي سمعها عدة مرات في التغطيات الصحفية، قالت لجيم بلا مواربة، وهو في قمة دهشته: “تعالَ معي. لدينا عمل للقيام به!”.  يعلم الجميع أن “العمل” عند الأمّ تريزا يتمثّل في جَوْب أحياء الهند الفقيرة بحثًا عن أفقر الفقراء.  الأم تيريزا تحدثت، وطاعتها واجبة…  فذهب جيم معها. 

وإذ لم تنبث هي بكلمة، لم يجرؤ جيم على فتح فيه حيث كان التأثر متملكًا منه كثيرًا.  ومن ناحية أخرى، فهو لم يفهم تمامًا إلى أين هو ذاهب ولا ما الذي ينتظره في هذه الرحلة التي لم تكن على الأقل في الحسبان.

كانت الأمّ تريزا تسير بخُطًى سريعة.  ولاح في الأفق جسر.  وأخذ الهواء يمتلئ برائحة كريهة شيئًا فشيئًا.  ويبدو بوضوح أن الأمّ تريزا تتجه نحو الجسر كما لو أن شيئًا ما يجذبها.  لقد وجدت نفسها في أرض مألوفة.  غير أنه كلما اقتربا من الجسر، أصبحت الرائحة غير محتمَلة.  لا عجب!  فعند وصوله أسفل الجسر، رأى جيم هيئة مُمَدَّدة على الأرض.  إنه رجل نصف عارٍ، مُسِن بعض الشيء، سابح في برازه وبوله وقيئه، ناهيك عن القذارة التي تملأ ملابس رثّة منذ أشهر إن لم يكن سنوات.

شعر الأمريكي بالغثيان.  إلا أن الأمّ تريزا، التي اعتادت دائمًا على مواجهة هذا النوع من الحالات، نظرت بحنان إلى هذا البائس المسكين والتفتت نحو جيم وهمست له: “اِحْمِلْه!”.  تردد جيم.  “أَحْمِلُه؟  ماذا تقصد؟”.  غير أن الأمّ تريزا تحدثت، وطاعتها واجبة…

مال جيم نحو الرجل ورفعه قليلاً، غير أن الرائحة كانت نفّاذة حتى إنه أدار رأسه جانبًا باشمئزاز.  وكان يريد أن يتقيأ.  لاحظ أن الرجل يعاني العديد من القروح وأن جروحه الملوَّثة جذبت الذباب إليها.  قال جيم في نفسه: “مهما تعمل، لا تلمسه على الإطلاق!”.  كما قام بسحب أكمام قميصه ليغطي بها يديه ويحمي نفسه بالتالي من أي اتصال بالرجل.  ثم قام برفعه ونقله مع الأمّ تريزا إلى بيت الراهبات.

التغلّب على مشاعر الاشمئزاز 

هناك، قام بوضعه على حصيرة على الأرض في حجرة كبيرة حيث تقوم راهبات الإرسالية الخيرية بالعناية بالمحتضرين.  وعندها، قالت له الأمّ تريزا: “قُمْ بتنظيفه”.  نظر إليها جيم في ذهول، وعند التفاته ثانيةً نحو الرجل المحتضر، ألّحت عليه ذات الفكرة: “من المستحيل لمس هذا الرجل”.  غير أنه لم يُرِد أن يخيّب ظنّ الأمّ تريزا، فقرر القيام بما طُلِبَ منه.  فأخذ الرجل ومدّده في مغطس لتنظيفه.

هل هو رجاء الأمّ تريزا؟  خطرت على جيم فكرة: “هذا الرجل سوف يموت عما قريب…  وسوف يكون من المريع أن تكون صورته عند مغادرة هذا العالم هي صورة شاب يدير رأسه جانبًا بقدر اشمئزازه!  ثم إذا قمتُ بمعاملته بشكل جيد لمرة واحدة من أجل السماء، فسوف يصلّي من أجلي!”. 

على أي حال، أخذ جيم في تنظيف الرجل بكل طاقته وبكل قلبه.  وأخذ في مسح جراحه الملوثة بعناية فائقة بواسطة إسفنجة، غير أن هذا لم يمنع الرجل من الانزلاق عدة مرات إلى قاع المغطس.  وأخذ الانفعال يكبر في قلب جيم.  “كيف لي أن أكون أنانيًّا هكذا؟  هذا الرجل في حاجة لأن يدرك أنه ليس وحيدًا”.  فوضع ذراعيه أسفل كَتِفَيْ الرجل المحتضر ورفعه ومرّر مياهًا صافية على جروحه.  ثم بدأ يهدهده بين ذراعيه.

المعجزة الأولى

في هذه اللحظة، تحوّل الرجل: هو الآن يسوع ذاته الراقد أمام جندي المارينز الضخم هذا والناظر إليه بحنان لا متناهٍ، إنه يسوع الذي سمح بتغسيله وهو مُمْتَن.  ارتجف جيم من التأثّر.  إنه يمسك بالرب بين ذراعيه!  لا ليست رؤيا، بل هو يسوع ذاته.  هناك ثقوب في يديه وفي رجليه.  وهناك فتحة في جنبه.  ووجهه المنتفخ يحمل علامات اللطمات. 

لم يصدّق جيم عينيه، فقد كان مذهولاً.  رفع رأسه نحو الأمّ تريزا كما لو كان يطلب شهادتها.  إلا أنه قبل أن ينبث بكلمة، قالت له بابتسامة رقيقة جدًّا: “أنت رأيته، أليس كذلك؟”.  فقد كانت تعلم.  وعندما أخفض جيم عينيه من جديد، عاد الرجل ثانيةً هذا الهندي المسكين المحتضر. حينها، أسرعت إليه أخوات الأمّ تريزا وتوارت هذه الأخيرة.

المعجزة الثانية

تمت المهمة.  ودخل جيم إلى حجرته الصغيرة.  زلزال حقيقي عصف بأفكاره ومشاعره، واحتاج لبضع ساعات ليستفيق من الصدمة. تساءل في نفسه: “ماذا حدث لي؟”. لقد أراد أن يستوضح الأمر، فهو ليس رجلاً عسكريًّا من أجل لا شيء. يجب أن يفهم، ويجب أن يجد الأمّ تريزا التي سوف تشرح له بكل تأكيد…  اقترب من راهبة كانت مارّة وسألها:

“أيتها الأخت، أود أن أقابل الأمّ تريزا قبل أن أغادر، رجاءً أخبريها بأن جيم يرغب في التحدّث إليها”.

“للأسف يا أخي، ولكن الأمّ تريزا ليست ههنا، فهي لا تزال في روما لبضعة أيام”.

“مستحيل، فقد كنت برفقتها في المدينة هذا الصباح، وقد اصطحبنا سويًّا رجلاً يحتضر. هي هنا، بالتأكيد!”.

صمتت الراهبة للحظة، وبابتسامة متواضعة، أعلنت لجيم: “آه نعم… فهمت… فهي تقوم أحيانًا بذلك!”.

من بين أفراد المارينز بسان فرانسيسكو، هناك أحدهم حقّق منذ ذلك الوقت حلمه أبعد من أي توقّع، وحياته لن تعود كما كانت أبدًا.  تحت جسر صغير في كالكوتا، في وسط حالة الترك الإنساني الأكثر سوداوية، لمسَ الله.

من كتاب سير إيمانويل ميلار – Scandaleuse Miséricorde

اشترك بالنشرة البريدية للموقع

أدخل بريدك الإلكتروني للإشتراك في هذا الموقع لتستقبل أحدث المواضيع من خلال البريد الإلكتروني.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق