مختارات عالمية

وراء كل كاهن قدّيس أمّ قدّيسة – قصّة الطوباوي ألويْزيّه ستيبيناك

قال الكاردينال كوهاري من زغرب: “لا نستطيع أن نفهم ألويْزيّه ستيبيناك ولا حياته البطولية من دون أن نتعرّف على أمّه!”

أمنية بربارة

عاشت في كرواتيا إمرأة تدعى بربارة، أمّ لثمانية أولاد. عندما كان ابنها يتعذّب في السجن، كانت تقوم بالمستحيل لتزوره وتشجّعه وتعزّيه. تعليمات تلك الحقبة كانت صارمة لدرجة إحباط عزيمة النساء الأكثر إقداماً! فلكي تصل أمام زنزانة السجين ، كان على الأمّ أن تتعرّى في غرفة عند مدخل السجن وأن تتقدّم بثيابها الداخلية وذلك في برد شتاء زغرب القارس، حيث تلامس درجات الحرارة في بعض الأحيان العشرة تحت الصفر. كان على بربارة أن تخضع لهذا الذلّ كلّه.
أحبّت يسوع فوق كل شيء وأتمّت واجباتها في بساطتها اليومية. كانت حكيمة ومتواضعة ككثيرات من النساء الكرواتيات وواقعية.
كان زوج بربارة مزارعاً كرواتياً وبالكاد يتدبّر أمور البيت الماديّة. عندما تعمّد ابنها الخامس ألويْزيّه فكتور في 9 أيّار 1898 في اليوم التالي لولادته، في كنيسة كراسيتش، عقدت بربارة نوعاً من عهد ضمني مع يسوع. أمنية خاصّة جدّاً كأنها وحي من الروح القدس: تمنّت أن ترى أحد أولادها كاهناً! وقد طلبت هذه النعمة طبعاً بشفاعة مريم التي كانت مكرّسة نفسها لها. وفي ولعها العميق بسر الإفخارستيا، كانت ترى الكهنوت نعمة النعم: أن تقدّم كاهناً للكنيسة، يمثّل لها هديّة إلهية لا تقدّر بثمن! ومن جهتها، لكي تحظى بهذه النعمة، تعهّدت أن تصلّي كل يوم وأن تصوم ثلاث مرّات في الأسبوع على الخبز والماء من دون تحديد تاريخ. ولم يخرج هذا القرار من تقيّة غير مدركة، بل كانت تعرف جيّداً أن يكون الإنسان كاهناً أمر خطير للغاية في المستقبل. وبالفعل، أثبتت الحقبة التي تلت هذا الأمر. فقد كان الكاهن معرّضاً للذلّ والإضطهاد من دون أن نستثني إمكانية الإستشهاد.

ألويْزيّه ستيبيناك

نعمة تتحقّق

وحده كاهن كراسيتش عرف بأمنية بربارة ووافق عليها. ولم تبح لزوجها ولا لأولادها بهذا السرّ بالرغم من رؤيتها تصوم، بالإضافة الى أنها لم ترد ولا بأي طريقة أن تؤثّر على اختيار ابنها للدعوة. اختياراً حرّاً، إذ يترتّب عليه وحده أن يتعرّف الى النداء في عمق أعماقه. وقد سمع الله طلب بربارة ولبّاه. فخلال صيف العام 1931، سيم ألويْزيّه كاهناً واحتفل بقدّاسه الأول في كراسيتش. كانت بربارة قد صلّت وصامت طوال اثنين وثلاثين سنة! وتبعاً للتقليد، خصّص ألوزيه بركته الأولى لوالدته. همس الكاهن حينئذٍ في أذن بربارة أمّه: “الآن وقد أصبح ابنك كاهناً، استحيبت رغبتك. وتستطيعين أن توقفي صيامك!” فأجابت بنبرة مصمّمة: “بالطبع لا! بل على العكس. سأصوم وأصلّي أكثر من أجل المستقبل لأني أطلب من الله أن يصبح ابني كاهناً قدّيساً!”

بعدما تحمّلت كرواتيا أهوال السلطة النازية، رضخت للحكم الشيوعي الذي ترافق مع اضطهادات مهولة. تميّز ألويْزيّه بإيمانه الثابت وصموده، ناهيك عن ذكائه الإستثنائي. فمنذ عام 1934، عُيّن أسقفاً وأصبح أصغر أسقف في العالم وذلك بعد مرور أربع سنوات على سيامته الكهنوتية. لقد أثمرت تضحية بربارة بوضوح! بالنسبة الى ألويْزيّه ، كان مثَل إيمان أمّه ودعمها له من خلال صلاتها وعاطفتها، المصباحين اللذين أضاءا سبيله. ووفاءً للإرث الذي ناله منها، حافظ دوماً على مسبحة الوردية في يده. وأصبحت إحدى مقولاته شهيرة: “عندما تُحرمون من كل شيء، تبقى لديكم يداكم لكي تصلّوا بهما!”

ألويْزيّه ستيبيناك أثناء محاكمته
ألويْزيّه ستيبيناك أثناء محاكمته

اضطهاد الشيوعيين للكاهن ألويْزيّه

كان بانتظاره درب صليب مؤلم. في الواقع، لقد هاجموا ألويْزيّه واتّهموه بأنه عدو الشعب وخائن لبلده في محاكمة مزيّفة. ثم اعتقل في العام 1946، وحُكم عليه بالسجن لمدّة 16 عاماً مع الأشغال الشّاقة. وخطيئته؟ رفضه الدائم تسليم كاثوليكيّ كرواتيا الى السلطة الشيوعية التي أرادت فصلهم عن روما. فقد ساهم عزمه وشجاعته في تجنّب الإنشقاق وإن ما زالت رعيّة مديوغوريه الكرواتية موجودة، وإن حافظت على كاثوليكيتها وتمكّنت من استقبال الملايين من المؤمنين، دعونا لا ننسى بأنّ الفضل يعود لأولئك الذين دفعوا دمهم ثمن الوفاء لروما ولخلافة الرسل!
من خلال تضحيتها المخفيّة، كانت بربارة ملهِمة لوفاء ابنها ألويْزيّه البطولي. فبفضل معونتها الوالدية نال القوّة والشجاعة لكي يواجه جميع الإعتداءات. وكان عليها أن تتكبّد عناء درب الصليب معه كما يستطيع قلب أمّ أن يفعل! وقد توفّيت في العام 1948 خلال فترة اعتقال ابنها عن عمر يناهز 82 سنة. ولم تعش فقط على هذه الأرض المجد المضاعف الذي كان ليتوّج جهودها: فقد عيّن البابا بيوس الثاني عشر الذي كان مطّلعاً على الوضع برمّته، ألويْزيّه ستيبيناك كاردينالاً على زغرب في العام 1953على الرغم من أنّ هذا الأخير بقي تحت المراقبة الشديدة. وولد ألويْزيّه في السماء في كانون الثاني 1960، أي قبل عامين من انتهاء مدّة عقوبته. وفي العام 1977 طوّب البابا يوحنا بولس الثاني، هذا الرجل المميّز الذي وهب حياته لكي يتجنّب كاثوليكيّ يوغوسلافيا الإنشقاق!

ألويْزيّه ستيبيناك محاط بالجنود الشيوعيين
ألويْزيّه ستيبيناك محاط بالجنود الشيوعيين

ربما يقول القدّيس يوحنا بولس الثاني من عليائه، أنه كان عليه أن يطوّب أيضاً هذه الأمّ الصغيرة المختبئة، هذه النفس السامية بربارة، التي وَلدت ليس بحسب الجسد فقط بل بحسب الروح أيضاً بطلاً وطنيّاً وقدّيساً وشهيداً بهذا الحجم!
أنظروا ما استطاعت أن تنال هذه الأمّ من أجل ابنها! هذا هو الحبّ الأمومي الحقيقي!
يحاول العدو أن يدمّر صورة الكاهن التي رسمها الله، إذ يُظهر خطيئة بعض الكهنة وينشرها عبر الوسائل الإعلامية ويعمل على محو هبة نفسهم البطولية وقداسة الكثير من الكهنة. ترغب العائلات كلّها في بركة الله عليها وعلى أولادها، وهذا أمر حسن. إذاً الوسيلة الأنسب لكسب البركة أوليست دعوة موزّع البركات ليحلّ ملكاً وسط العائلة؟ فلنشرّع أبوابنا الى من هو منبع كل بركة ومن يرغب كثيراً في أن يكشف داته لنا من خلال كهنته! أوليسوا “هو بذاته” آخرين عندما يعطونا الأسرار؟ أوليس كهنتنا كنزنا وسلّمنا نحو السماء؟

أمّه الروحيّة خادمة الله ماريا بوردوني
خلال سنوات اعتقال ألويْزيّه ستيبيناك، هذا الخادم الأمين للكنيسة، قدّم الله له أمّاً روحية أخرى. إنّها ماريا بوردوني (1916-1978) مؤسّسة كليّة والدة الإله، التي كانت تعيش آنذاك في كاستل غودولفو بالقرب من روما. منذ ذلك الحين أعلنت من قبل الكنيسة “خادمة الله (المرحلة الأولى قبل التطويب)

cats
ماريا نفس متصوّفة كبيرة بقدر ما هي مختبئة، ممتلئة من الروح الكهنوتية مما دفعها الى أن تقدم ذاتها ضحيّة من أجل الإكليروس. وكانت تصلّي غالباً في المساء من أجل الكنيسة والحبر الأعظم والكهنة والمسيحيين المضطهدين. وقد تحدّثت مريم العذراء الى روحها واصطحبتها بازدواجية الوجود ، لتزور مناطق البؤس وأيضاً خلال الزمن الشيوعي، زوّرتها البلاد الشرقية لكي تعزّي المتألّمين والمتألّمات في السجون او المعسكرات.
في إحدى المرّات لدى تواجد ماريا في مكانين في آن، زارت الكاردينال ستيبيناك عندما كان معتقلاً في زغرب. وقد سمحت لها العذراء بأن ترى كاهناً في السجن جالساً على كرسي. كان منحنياً كثيراً نحو الأمام تتّكئ ذراعاه على ركبتيه وتنزلق بين أصابعه حبوب مسبحته. وكان يصلّي. قالت العذراء القدّيسة حين\ذٍ لماريا: “هل رأيتِ هذا الإبن الحبيب الذي هو خاصّتي؟ إنه يعاني كثيراً. صلّي كثيراً من أجل إبني الحبيب هذا الذي هو خاصّتي، يُدعى ألويْزيّه ستيبيناك”.

عندما طوّب البابا يوحنا بولس الثامي في عام 1997 أسقف كرواتيا الشهيد، تذكّرت راهبات ماريا بوردوني في كاستل غاندولفو أنّهن سمعن بهذا الإسم من قبل، في الكتابات التي تركتها مؤسستهنّ وفي القصص التي روتها لهنّ. في الواقع وُجدت في المدوّنات الروحية التي بحثن فيها هذه المعلومة “زيارة تعزية” لماريا بوردوني الى الكاردينال ستيبيناك الذي عاش بعد اعتقاله تسع سنوات في مسقط رأسه تحت مراقبة مشدّدة من ثلاثين حارساً قبل أن يموت في العام 1960 مسامحاً كل من أساء إليه.

اشترك بالنشرة البريدية للموقع

أدخل بريدك الإلكتروني للإشتراك في هذا الموقع لتستقبل أحدث المواضيع من خلال البريد الإلكتروني.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق