ظهورات السيدة العذراء في فاطيما
تحتفل الكنيسة المقدسة بعيد مريم العذراء سيدة فاطيما في يوم 13 أيار من كل سنة.
تقع بلدة فاطيما شمالي لشبونة عاصمة البرتغال على بعد 100 كم منها. وعلى بعد 1350 م من بلدة فاطيما تقع قرية الجستريل، وهذه القرية كانت تضم عشرة بيوت.
وفي هذه القرية تصاهر رجلان، أقترن كل منهما بأخت الآخر وهما أنطونيو دوس سنتس، ومانوئيل بيدرو مرتو. فالأول أقترن بماريا روزا مرتو، والثاني بالمبيا سنتس. وقد رزق أنطونيوا من زوجته أبناً وخمس بنات، أحدهن ولدت في 22 آذار سنة 1907 ودعيت لوسيا.
أما مانوئيل فقد رزق من زوجته تسعة أولاد منهما فرنسوا الذي ولد في 11 حزيران 1908، وأخته هياسنت التي ولدت في 10 آذار سنة 1910. وقد وقع اختيار البتول مريم على لوسيا وفرانسوا وهياسنت لتلتقي معهم.
كان فرنسوا وأخته هياسنت منذ نعومة أظفارهما، يمحضان ابنة خالهما لوسيا حباً فريداً. وكان ميلهما إليها بتدبير إلهي خفي، إذ كانا ينفران من عشرة بقية الأولاد ويرتاحان إلى صحبتها.
ولما بلغت لوسيا الثامنة من عمرها، عهدت إليها والدتها رعاية قطيع صغير للأسرة. وما أن علم فرانسوا وهياسنت بذلك، حتى ذهبا يتضرعان إلى والدتهما أن تفسح لهما بمرافقة لوسيا إلى الجبل وراء القطيع. فرفضت طلبهما في البداية، لكنها وافقت أخيراً بسبب إلحاحهما. فوكلت إليهما رعاية بعض النعاج كانت تملكها. ومن ذلك الحين، كان أولئك الرعيان الثلاثة يجمعون قطيعهم الصغير، ويذهبوا به إلى الجبل. وكانوا عصر كل يوم يتلون معاً مسبحة الوردية، قبل أن يعودوا بالقطيع إلى البيت.
وأرادت العذراء سلطانة السماء قبل ترائيها لفتيان فاطيما، أن ترسل لهم من قبلها سفيراً سماوياً، يعد لها السبيل إلى نفوسهم الغضة، ويهيئهم لرسالتهم السامية بروح العبادة والتضحية. وذات يوم من أواخر سنة 1915 بينما كن يتلون سبحة الوردية، إذا بهن يبصرن فجأة شكلاً يحاكي تمثال ثلج، تخللته أشعة الشمس وجعلته شفافاً. وقد تجلى ذلك الشكل على شجيرة صغيرة من شجيرات الوادي المتحدر أمامهن. وما أن فرغن من الصلاة حتى توارت الرؤيا. وخلال أسابيع قلائل تكررت الرؤيا دفعتين متواليتين.
وتتحدث الأخت لوسي في مذكراتها ما حدث لهم خلال الظهور الثالث للملاك قائلة: عندما وصلنا إلى المكان ركعنا وصوّبنا وجوهنا نحو الأرض بدأنا نردد الصلاة التي علمنا إياها الملاك: ” إلهي أنا أؤمن وأسجد، أرجو وأحب، وأستميحك المغفرة لمن لا يؤمنون ولا يسجدون، ولا يرجون ولا يحبون “. لا أدري كم رددنا هذه الصلاة حتى رأينا فوق رؤوسنا نوراً غريباً يلمع. وقفنا كي نرى ماذا يحدث فرأينا الملاك يحمل بيده اليسرى كأساًَ كانت معلقة عليها قربانة يقطر منها بعض قطرات الدم في الكأس. ترك الملاك الكأس معلقة في الهواء. فركع قربنا وجعلنا نردد ثلاث مرات:
” أيها الثالوث الأقدس، الآب والابن والروح القدس. أسجد لك بتجلّة وأقدم لك جسد سيدنا يسوع المسيح، الحاضر على هياكل الدنيا بأسرها. ودمه الكريم نفسه ولاهوته، كفّارة عن الإهانات التي تغيظه. وباستحقاقات قلبه الأقدس غير المتناهية، وبشفاعة قلب مريم الطاهر، ألتمس منك عودة الخطأة البائسين إلى التوبة “.
بعدها نهض وحمل بين يديه الكأس والقربانة فناولني القربانة المقدسة وقسم الدم في الكأس بين هياسنت وفرانسوا وهو يقول: ” خذوا كلوا واشربوا جسد ودم سيدنا يسوع المسيح الذي يهينه البشر الجاحدون بشكل فظيع. عوضوا عن جرائمهم وآسوا إلهكم “. ثم سجد من جديد على الأرض وردد معنا ثلاث مرات أيضاً ” أيها الثالوث . . . ” واختفى. بقينا على حالنا نردد دائماً الكلمات ذاتها، ولما نهضنا رأينا بأن الليل قد حل وبأنه حان وقت العودة إلى المنزل.
وقد كتمت لوسيا ما حدث، لكن رفيقاها باحا بالأمر، فبلغ إلى مسامع أمها. وقد سألتها أمها عما جرى، فقصت عليها سياق الحوادث الثلاث. فاستخفت الوالدة أقوال أبنتها، وعدتها مهزلة صبيانية.
وفي يوم الأحد 13 أيار سنة 1917 كان الأطفال الثلاثة يرعون أغنامهم في المكان المعروف بــ ” كوفا دي إريا “، وعندما دق جرس الكنيسة المجاورة ظهراً داعياً لصلاة التبشير الملائكي، ترك الأطفال ألعابهم وبكل خشوع وتقوى أخذوا يتلون التبشير الملائكي. وما كادوا ينتهون من الصلاة حتى خطف أبصارهم برق باهر، فقررت لوسيا العودة مع الأخوين إلى المنزل خوفاً من حدوث عاصفة. وإذا ببرق آخر أقوى من السابق أوقفهم مرتعدين مضطربين وعلى يمينهم، وسط النور الساطع الخاطف للأبصار، رأوا على شجرة سنديان صغيرة، سيدة أية في الجمال والبهاء واقفة وبإشارة منها طمأنتهم حيث قالت: ” لا تخافوا فإني لن أسيء إليكم “.
ذهل الأطفال وأخذوا يحدقون النظر في تلك السيدة التي لا يزيد عمرها على الثماني عشر سنة، ذات الوجه الجميل الأخاذ، والذي تحيط برأسه هالة من نور، علته مسحة من الكآبة والألم الدفين. وكانت تلك السيدة ضامة يديها على صدرها في موقف من يصلي، كما كان ثوبها ناصع البياض كالثلج ينزل لآخر رجليها وفي عنقها سلسلة من ذهب تتدلى إلى وسط الجسم، وغطاء رأسها رداء أبيض مطرز بالذهب ينزل إلى القدمين، وبيدها اليمنى مسبحة ذات لآلئ وصليب من الفضة. وهنا قطعت لوسيا السكوت سائلة تلك السيدة: ” من أين أنتِ ؟ “.
فأجابتها السيدة: ” من السماء ! “.
ثم سألتها لوسي: ” وماذا أتيتِ تصنعين هنا ؟ “.
فأجابتها السيدة: ” أتيت لأطلب منكم أن تكونوا هنا ستة أشهر متوالية في اليوم الثالث عشر من كل شهر وفي مثل هذه الساعة ! “.
وبعد ذلك بدأت السيدة تسأل الأطفال موضحة لهم ما تريد منهم قائلة: ” هل تريدون تقدمة أنفسكم لله محتملين كافة الآلام التي يرى سبحانه وتعالى تحميلكم إياها تعويضاً وكفّارة عن الخطأة حتى يتوبوا ويرجعوا إلى الله ؟ “.
فأجابوا: ” نعم نريد “.
وهنا قالت لهم السيدة: ” إذاً ستتعذبون كثيراً، ولكن نعمة الله ستكون معكم وهي تسندكم وتثبتكم فثابروا يا أولادي على تلاوة المسبحة كما كنتم تفعلون الآن “. بعد ذلك إبتعدت السيدة رويداً رويداً نحو الشرق واختفت في نور الشمس. وقد أستمرت هذه الرؤيا وهي الأولى حوالي عشر دقائق.
وبعد عودتهم إلى المنزل روت هياسنت لأمها كل شيء رغم تحذير لوسيا إياها وفرانسوا. فخاف أهالي الأطفال أن يكونوا يلهون بمثل هذه الأمور، وأن لا يكون كل ما يسردونه إلا عبث أحداث، فأضطروا لأن يؤنبوهم بكل شدة. وكانت لوسيا أكثر الأطفال تعرضاً للأذى حيث ضربها والداها ضرباً مبرحاً، وعُيرت منهما ومن أهالي البلدة بأنها كاذبة مرائية وخادعة ومنافقة. لكن الأطفال تحملوا كل الآلام بصبر وتواضع مصممين على رؤيتهم ومصرين على الذهاب إلى الموعد المحدد للقاء السيدة.
وفي يوم 13 حزيران سنة 1917 توجه الأطفال الثلاثة يصحبهم ستون شخصاً من الأهالي إلى المكان الذي وعدت العذراء بالظهور فيه. وبعد أن صلى الجميع المسبحة، وقفت لوسي وتطلعت نحو الشرق، ثم صرخت قائلة: ” لقد رأينا البريق الذي يسبق مجيئها، فالسيدة سوف تحضر حالاًَ “. ثم توجهت لوسي لناحية شجرة السنديان، وفي أعقابها فرانسوا وهياسنت.
وهنا ظهرت السيدة من جديد، وشددت على الأطفال بضرورة الثبات على صلاة المسبحة مراراً على قدر المستطاع. وهنا سألتها لوسيا: ” ماذا تريدين مني أيتها السيدة “.
فردت السيدة: ” أريد أن تحضروا هنا في الثالث عشر من الشهر القادم “.
ثم قالت السيدة للوسيا: ” أريد أن تتعلمي القراءة لأتمكن من إطلاعك فيما بعد على ما أبغي “. ثم أقترحت لوسيا على السيدة أن تأخذها مع رفيقيها إلى السماء. فقالت لها السيدة: ” أجل سآتي عن قريب لآخذ هياسنت وفرانسوا. وأما أنتِ فستبقين على هذه الأرض زماناً أطول، لأن يسوع يريد أن يجعلك أداة يعرفني الناس بها ويحبونني. بوده أن ينشر في العالم إكرام قلبي الأطهر “. فأجابت لوسيا بلهفة: ” سأبقى إذاً وحدي؟ “.
فردت عليها السيدة: ” كلا يا بنيتي! لن أهملك البتة، لأن قلبي المنزّه عن كل عيب يكون لك مأوى، وسبيلاً يقودك إلى الله “. قالت هذا وأفرجت يديها. فتدفق النور منها، وشمل الرؤاة. فعاينوا ذواتهم غارقين في لجة الله. وبدا لهم أن جدولاً من الضياء يقل فرانسوا وهياسنت إلى السماء، وأن جدولاً آخر ينصبّ على بلوسيا على الأرض. ورأوا قلبها أحدقت به الأشواك وآلمته ففهموا أنه قلب البتول الأطهر يطلب التوبة والتعويض، إذ قد أوجعته خطايا البشر. ثم أودعت كل طفل من الأطفال الثلاثة سراً مع التنبيه عليه بأن لا يفشيه لأي إنسان. وعندئذ تلاشت الرؤيا وهي الثانية.
في 13 تموز سنة 1917 حضر إلى مكان الظهور أكثر من خمسة آلاف شخص، وعندما ظهرت السيدة طلبت لوسيا من الجموع الركوع باحترام. فأوصت السيدة الأطفال الثلاثة بصلاة الوردية حتى تنتهي الحرب العالمية الأولى قائلة: ” إن شفاعة البتول النقية وحدها تقدر أن تنال للعالم هذه النعمة “.
فسألت لوسيا السيدة عن اسمها، كما طلبت منها بناء على إلحاح الحاضرين أن تصنع معجزة تثبت حقيقة ظهورها، فأجابت السيدة: ” ثابروا على المجيء هنا يوم 13 من كل شهر. وفي يوم 13 تشرين الأول سنة 1917 سأقول لكم من أنا، كما سأعمل معجزة عظيمة حتى يؤمن الجميع بحقيقة ظهوري “. وهنا طلبت لوسيا منها بعض النعم فكررت لها توصيتها بتلاوة الوردية. ثم قالت للأولاد الثلاثة: ” قدموا تضحياتكم لأجل الخطأة قائلين: يا يسوع هذا حباً لك، ولإرتداد الخطأة، وتعويضاً عن الإهانات التي تلحق قلب مريم الطاهر “. ثم أودعت الأطفال سراً جديداً عرف فيما بعد جزء منه المتعلق بتأسيس إكرام قلب مريم الطاهر. ثم فتحت السيدة يديها كما فعلت سابقاً فرأى الأطفال شعاع النور يخترق الأرض وعاينوا جهنم، حيث مصير نفوس الخطأة البائسين وقالت لهم: ” الرب يريد أن يخلص النفوس بتأسيس إكرام قلب مريم الأطهر “. ثم قالت لهم: ” أضيفوا بعد تلاوة المجد للآب والابن والروح القدس من كل سر من أسرار المسبحة الصلاة التالية: يا يسوع أغفر لنا خطايانا ونجنا من نار جهنم، وخذ إلى السماء كل الأنفس خاصة الأكثر احتياجاً إلى رحمتك “.
وقد لاحظ الحضور أثناء الرؤيا تضاؤلاً عظيماً في نور الشمس، كما رأوا غمامة بيضاء كانت تظلل الأطفال الثلاثة وكان الرؤيا. وعندئذ تلاشت الرؤيا وهي الثالثة.
بعد الرؤيا الثالثة تكاثرت المضايقات للأطفال الثلاثة، فقد أجرت الجهات الرسمية تحقيقات حول الموضوع. أما الصحافة اللادينية فقد اعتبرت الرؤيا مجرد هواجس أو خزعبلات من اختراع بعض الكهنة. وأخذ حاكم مركز أوليم وهو ماسوني ، والذي تتبعه بلدة فاتيما على عاتقه أن يقتل في المهد تلك الروحانيات. لذلك جمع الأطفال ووالديهم وأمطرهم بوابل من الأسئلة والاستجوابات، وأشبعهم وعيداً وتهديداً عله يصل إلى تراجع الأطفال عن إصرارهم على توكيد حوادث الظهور فلم يفلح. ولما يئس وأعيته الحيل لم يتورع عن توعيد الأطفال بالقتل إذا لم يقلعوا عن إصرارهم، فجاوبه الأطفال ببطولة وبسالة وإيمان: ” إذا كنت تقتلنا فهذا لا يهم لأننا سنذهب فوراً إلى السماء “.
وفي يوم 13 آب سنة 1917 وهو اليوم المحدد للظهور الرابع، تجمهر في المكان حوالي الثمانية عشر ألف شخص من المؤمنين الأتقياء، فبادروا بالصلاة والتراتيل وتلاوة المسبحة. ولما كان الظهر لم يحضر الأطفال كالمعتاد. فتعجب الحاضرون واستفسروا عن السبب، فعلموا أن حاكم المنطقة أخذهم عنوة، فهاجت الجموع وماجت وصممت على التظاهر أمام مركز الحكومة لإعلان سخطها واحتجاجها.
وهنا سمع الجميع دوي الرعد، وازدانت السماء ببرق لامع، فتضاءل نور الشمس، ومال لون الجو إلى الإصفرار، وتكونت سحابة بيضاء جميلة فوق شجيرة السنديان ثم ارتفعت وتلاشت. وفي تلك الأثناء كان الحاكم قابضاً على الأطفال وأبقاهم محجوزين ثلاثة أيام. ولما أعيته الحيل عن معرفة ما اؤتمنوا عليه من الأسرار قال لهم: ” إما أن تقولوا الحق أو ألقي بكم في موقد الغرفة فتحترقوا “. وأخذ كل طفل على حدة مظهراً أنه سينفذ تهديده فعلاً ! فلم يفلح أيضاً. ولما يئس أمام بطولة هؤلاء الأطفال واستعدادهم للاستشهاد، أضطر لتسليمهم إلى كاهن البلدة ليوصلهم إلى أهاليهم.
ولما تغيب الأطفال مكرهين عن ميعاد 13 آب أعتقدوا أنهم لن يروا السيدة. ولكن حدث أنه في يوم 19 آب وفي مكان آخر يسمى ” فالينيوس ” ظهرت لهم السيدة، واستنكرت تصرف الحاكم ومنعه إياهم من ميعاد 13 آب في المكان المعتاد. ثم دعتهم للصلاة دائماً وتقديم التضحيات وإماتة النفس لارتداد الخطأة قائلة: ” صلوا صلوا كثيراً وابذلو التضحيات وإماتة النفس لأجل الخطأة فما أكثر الأنفس التي تذهب إلى جهنم لعدم وجود من يضحي لأجل الخطأة قبل موتهم “. وكان هذا الظهور الرابع.
وفي يوم 13 أيلول سنة 1917 توجه إلى بلدة فاطيما ما يربو على الثلاثين ألف شخص، فازدحمت الطرق الموصلة إلى مكان الظهور. وقبيل الظهر حضر الأطفال الثلاثة ولما أستقر بهم المقام صرخت لوسيا في الجموع قائلة: ” يجب أن تصلوا “. وفي الحال ركع الجمع كله تلبية لنداء هذه الطفلة، مصلياً ومستعطفاً أم الرحمة.
وفي الظهر تماماً بدأت الشمس تفقد بهاءها، ومال لون الجو إلى الإصفرار الذهبي فاندهشت الجموع. وقد رأى غالبية الحاضرين كرة من النور تسير بعظمة وجلال من الشرق إلى الغرب في الفضاء المتسع. ثم ظللت سحابة بيضاء شجرة السنديان الأخضر والثلاثة أطفال. ولاحظ الجمع كله أن لوسيا كانت تتحدث بصوت مرتفع مع شخص غير مرئي دون أن يسمع أحد الحاضرين ما عدا لوسيا والطفلين الآخرين كلام هذا الشخص أو يتمتع بمشاهدته.
فقالت السيدة للأطفال: ” واظبوا على صلاة الوردية لنوال نعمة انتهاء الحرب “. ثم وعدتهم بالعودة في يوم تشرين الأول بصحبة القديس يوسف والطفل يسوع، ووعدتهم بمعجزة ليؤمن الجميع. وهنا سألتها لوسيا نعمة الشفاء للمرضى فأجابت: ” سأشفي البعض ولكن الباقين لن يشفوا لأن السيد المسيح غير راض عنهم “. وكان هذا الظهور الخامس.
وفي صباح يوم 13 تشرين الأول سنة 1917 ازدحمت الطرق المؤدية لبلدة فاطيما بالناس ، ورغم البرد القارص والمطر الغزير بلغ عدد القادمين سبعين ألف نسمة. وفي انتظار ما سيحدث كان شاغل كل واحد منهم الصلاة والتضرع إلى الله. وبكل مشقة وصل الأطفال الثلاثة برفقة والديهم وشقوا لهم طريقاً وسط الجموع التي كانت تحييهم بكل إحترام. وبناء على طلب لوسيا وقفت هذه الكتل البشرية تصلي المسبحة. وفي الظهر تماماً قطعت لوسيا الصلاة صارخة: ” ها هي تأتي “. فشاهدت الجموع وعلى ثلاث دفعات متوالية سحابة بيضاء تظلل الأطفال الثلاثة طول مدة الظهور التي أستمرت من إثني عشر إلى خمسة عشر دقيقة.
وخلال الظهور قالت العذراء للأطفال الثلاثة ما يلي: ” أنا سيدة الوردية، ويجب على الناس أن يتوبوا ويغيروا عيشة المعاصي، وأن يكفوا عن إهانة سيدنا يسوع المسيح المهان كثيراً، وعليهم أن يتلوا الوردية “. ثم أضافت العذراء أنها تريد أن تقام هناك كنيسة إكراماً لها. ووعدت بقبول تضرعات الناس لإنهاء الحرب سريعاً إذا ما غيروا سيرتهم. وعندما أرادت العذراء الإنصراف أشارت بأصبعها إلى السماء، فصرخت لوسيا قائلة: ” انظروا إلى الشمس “.
وفي الحال إستطاع جميع الحاضرين أن يشاهدوا لمدة إثني عشر دقيقة منظراً مروعاً ومدهشاً لم تره عين. فلقد انقطع المطر فجأة، وانقشعت الغيوم، وأضحت الشمس بيضاء مثل كرة من الفضة يمكن التحديق فيها دون خوف من الإغشاء. وفي اللحظة ذاتها كعجلة من نار أخذت الشمس تدور حول نفسها مترنحة. ومثل كشاف جبار كانت ترسل في جميع الجهات باقات من الأنوار الخضراء والحمراء والزرقاء ومن كافة الألوان لتسرح فوق السحب وفوق جمهور النظارة وفوق الأرض. ثم وقفت حركة الشمس فجأة بعد مضي أربع دقائق، لتعود مرة ثانية وثالثة إلى رقصتها العجيبة المترنحة وسط أنوار خيالية مبهرة.
وبينما كان الجمهور مأخوذاً بروعة الحادث، ظهر للأطفال الثلاثة بالقرب من الشمس المشاهد الآتية:
أولاً: العائلة المقدسة مكونة من سيدة الوردية والقديس يوسف والطفل يسوع.
ثانياً: سيدنا يسوع المسيح في سن الرشد مباركاً الجموع بحب وعطف.
ثالثاً: سيدة الآلام أعني الأم الحزينة.
رابعاً: سيدة الكرمل حاملة بين يديها ثوب العذراء.
ولما قاربت المعجزة لنهايتها حدث ما هو أروع من كل ما سبق، إذ أن الشمس بعد رقصتها الثالثة وسط النار والألوان وقفت لحظة. ومثل عجلة جبارة تفكك رباطها من كثرة دورانها. ثم انفصلت عن الأفق وانحدرت ساقطة فوق النظارة الذين ذعروا، ظناً منهم أنها نهاية العالم التي تنبأ عنها الإنجيل المقدس. وهنا ركعت الجموع على الأرض مرتجفة متضرعة ومبرزة أحر أفعال الندامة. وفي الحال سكنت الشمس مكانها وعاد إليها بهاؤها المعتاد. وكان هذا الظهور السادس والأخير.
سنة 1918 أنتشر في أوربا وباء مهول، وفتك فيها فتكاً ذريعاً، وقد دعوه الحمى الإسبانية. وقد أصيب فرانسوا وهياسنت بذاك الوباء. وبعد معاناة فرانسوا من الداء المذكور توفي قي 4 نيسان سنة 1919 عن عمر لم يتجاوز 11 سنة. أما أخته هياسنت فقد توفيت في 20 شباط 1920 عن عمر لم يتجاوز 10 سنوات. بعد معاناة مريرة من ذاك الوباء.
أما لوسيا فقد اختارت الحياة الرهبانية، فدخلت دير الكرمل سنة 1926. واستمرت في حياتها الرهبانية حتى توفيت في 13 شباط 2005 عن عمر بلغ 97 سنة.
سنة 1997 وضعت الأخت لوسيا كتاباً بعنوان ” نداءات رسالة فاطيما “. بعد أن تكاثرت الأسئلة الملحة حول موضوع الظهورات، فطلبت من الكرسي الرسولي الإذن بجمع الأجوبة في كتاب يشملها جميعها، وقد حصلت عليه. ومن خلال هذا الكتاب قدمت الأخت لوسيا للعالم خلاصة شاملة ومدروسة للبشرى التي تلقتها من مريم أم الرب. وتقول الأخت لوسي في مقدمة كتابها: ” عندما حدثت تلك الظهورات، لم أكن أعرف الشريعة بعد. كان لدي صورة محدودة وغير كاملة، لا أجيد القراءة ولا الكتابة وأعيش في جو بعيد عن الثقافة والعلم. وقد حصلت على تلك المعرفة ببطء كبير، بفضل النور الذي زودني به الله. وبعد أن سمحوا لي بقراءة الكتاب المقدس، حينها فهمت معنى الرسالة الحقيقي “.
وقد لخصت الأخت لوسيا رسالة فاطيما بعشرين نداءاً، وعلى الشكل التالي:
الأول _ نداء إلى الإيمان: الإيمان هو أساس الحياة الروحية، نعترف عبره بوجود الله وقدرته وحكمته ورحمته وفدائه ومغفرته وحبه الأبوي. عبر الإيمان نؤمن بكنيسة الله التي أسسها يسوع المسيح وبالتعليم الذي تنقله إلينا والذي عبره سيتم خلاصنا. إن نور الإيمان هو الذي سيرشدنا ويقودنا في الطريق الضيق الذي يوصلنا إلى السماء. وعبر الإيمان نرى المسيح في إخوتنا ونحبهم ونخدمهم ونساعدهم عندما يكونون بحاجة إلينا. نتأكد كذلك عبر الإيمان، من وجود الله فينا، ونتأكد بأننا دائماً تحت نظره. إنها نظرة نور قديرة وعظيمة تمتد في كل جهة فترى كل شيء، وتخترق كل شيء بوضوح كما النور الإلهي.
الثاني _ نداء إلى العبادة: من خلال وصية الله الأولى ” أنا الرب إلهك . . . ” عبر هذه الشريعة يوصينا الله بعبادته هو فقط، ويمنعنا من صنع منحوتات بواسطة الأشياء التي خلقها هو. ولا ينبغي مساواة الأوثان بصور المسيح والعذراء والقديسين، ولا يجوز تقدمة الشعائر والعبادة لأي من تلك الصور. فلذلك نقدر صور يسوع والعذراء والقديسين، لأنها تذكرنا بالأشخاص الذين تمثلهم، وبفضائلهم وتعاليمهم فنندفع للإقتداء بهم. وعليه فعبادة الله هي واجب ووصية، فرضها الله علينا بدافع المحبة لكي يتيح لنا التبرك منه.
الثالث _ نداء إلى الرجاء: يجب أن نضع رجائنا في الرب، لأنه الإله الوحيد الحق، الذي خلقنا بدافع حب أزلي، وافتدانا بإرساله لنا إبنه الوحيد يسوع المسيح، إلهاً حقاً وإنساناً حقاً، تألم ومات من أجل خلاصنا. فرجاءنا يكمن في الله، في كلمته وفي حبه الأبوي وفي يده المخلصة. ونحن كالأبناء المستسلمين بين ذراعيه، المطمئنين من رحمته اللامتناهية، نعرف بأن ثقتنا لن تخيب.
الرابع _ نداء إلى حب الله: الله محبة هذا ما يقوله يوحنا الإنجيلي. فهو يحبنا حباً أبدياً منذ الأزل، فعلينا أن نتنبه إلى الوصية التي أعطانا الله وهي أن نحبه. ويظهر حبنا لله ويبرهن بالحب الذي نخص به كل واحد من إخوتنا، لأنهم جميعهم مثلنا أبناء الله، أحبهم وافتداهم بيسوع المسيح. ومن أجل أن يكون حبنا حقيقياً ومقبولاً لدى الله، يجب أن ينعكس على إخوتنا عبر صلاتنا ومثالنا الصالح وأقوالنا وأعمالنا.
الخامس _ نداء إلى المغفرة: يحملنا هذا النداء على طلب الغفران من الله من أجل إخوتنا ومن أجلنا، ومن أجل الذين يؤمنون ولا يؤمنون، من أجل الذين لا يعبدون وينحنون أمام الله، ولأجل الذين لا يرجون ولا يثقون، من أجل الذين يحبون ولا يحبون. فجميعنا بحاجة إلى غفران الله من أجل قلة إيماننا وضعفه، ومن أجل رجائنا الذي غالباً ما يكون خامداً، ومن أجل محبتنا الباردة وغير المبالية، ومن أجل عبادتنا الواهنة. ولا نستطيع الحصول على غفران إن لم نغفر لإخوتنا أولاً، لذلك لا يمكننا أن ننمي الشعور بالحقد والإرادة السيئة والمخاصمة وكذلك الشعور بالانتقام بسبب أي إهانة وجهها لنا قريبنا، كبيرة كانت أم صغيرة.
السادس _ نداء إلى الصلاة: أوصى يسوع تلاميذه: ” اسهروا وصلوا لئلا تقعوا في التجربة “. فعبر التأمل والصلاة نحصل على مغفرة لخطايانا، والقوة والنعمة لكي نقاوم تجارب العالم والشيطان وشهوات الجسد. نحن جداً ضعفاء ومن دون هذه القوة لن نتوصل إلى الفوز. وقد علمنا يسوع أن نصلي ” أبانا الذي . . ” وهي أجمل ما نتقدم به من صلوات نحو الله، والتي يعلمنا يسوع فيها مناداة الله بالاسم العذب وهو ” أب “. وهناك طرائق للصلاة نذكر منها: 1_ صلاة شفهية: أي موجهة مباشرة إلى الله بكلمات نابعة بعفوية من قلبنا. 2_ صلاة عملنا: هي إتمام كل واجبات الحالة الشخصية، بروح خاضع ومتواضع لله. لأنه هو الذي فرض علينا شريعة العمل. 3_ صلاة عقلية: وهي معروفة بــ ” التأمل ” وهي ترتكز على التفكير أمام الله بسر من الأسرار الموحى بها، ببعض المراحل من حياة الرب، ببعض نقاط العقيدة، وبشريعة الله، أو بفضيلة ما من الفضائل التي يتحلى بها يسوع المسيح، في السيدة العذراء، أو القديسين، فنقتدي بها.
السابع _ نداء إلى التضحية: يمكن أن تكون التضحيات من خيرات روحية وفكرية ومعنوية وجسدية ومادية. إن سنحت لنا الأوقات، فلدينا فرصة في تقديم بعضها في وقت ما، وغيرها في وقت آخر. فالمهم أن نكون مستعدين للإستفادة من الفرص التي تتاح لنا. علينا أن نكون قادرين، خصوصاً أن نضحي عندما يكون هذا مطلوباً، طاعة لواجبنا نحو الله والقريب وذواتنا.
الثامن _ نداء إلى المشاركة في سر الإفخارستيا: يؤكد لنا يسوع حضوره الحقيقي بالجسد والروح، حياً كما هو في السماء، حيثما وجد الخبز والخمر المكرسين فهو يقول: ” هذا هو “، لم يقل ” هذا كان ” أو ” هذا سيكون ” ولكن ” هذا هو “، في أي وقت وأينما كان الخبز والخمر المكرسان، هما جسد ودم يسوع ويبقيان كذلك طالما نحتفظ بهما. فيسوع حي في القربان. ومن أجل أن نتمكن من الغذاء من هذا الخبز، علينا أن نكون في حالة نعمة مع الله. فعلينا أن نفحص ضميرنا، ثم نتطهر معترفين بخطايانا في سر التوبة. وبعد اعتراف متواضع وصادق، مفعم بروح توبة ونية إصلاح، نحصل على مغفرة خطايانا. وعلى هذا الشكل، يمكننا أن نتقبل جسد ودم يسوع المسيح، متأكدين بأن هذا السر هو بالنسبة إلينا ينبوع حياة، وقوة ونعمة.
التاسع _ نداء إلى التقرب من الثالوث الأقدس: سر الله الواحد والمثلث الأقانيم في أشخاص الآب والابن والروح القدس. سر الثالوث الأقدس، إله واحد في ثلاثة أقانيم قد أوحي إلينا به، ولكن فقط في السماء يُعطى لنا فهمه كاملاً. نؤمن به لأن الله قد أوحى إلينا به، ونعرف جيداً بأن فهمنا المحدود بعيد كل البعد عن قدرة الله وحكمته. بالنسبة إلينا تظهر الطبيعة بأكملها مكتنفة بالأسرار، كما تبدو بكليتها كإيحاء لسر الله، الذي هو ثالوث في أقانيم الآب والابن والروح القدس، إله واحد حق. إن عظمتنا كبيرة، فالله قد اختارنا، هو حامينا وحضوره يقدسنا بثناء مجده، نحن بيوت قربان حية حيث يسكن الثالوث الأقدس.
العاشر _ نداء إلى تلاوة يومية للسبحة الوردية: السبحة الوردية هي الصلاة التي أوصى بها الله عبر كنيسته وعبر السيدة العذراء، بإلحاح كبير إلى الجميع، كطريق وباب إلى الخلاص. هناك صلوات عديدة جميلة جداً، يمكنها أن تخدمنا كتحضير لنتقبل المسيح في القربان، ولكي نحافظ على اتصال ودي حميم مع الله. ولكن يبدو لي أنه لا يوجد أي صلاة يمكننا أن ننصح بها، فتكون الأفضل للجميع كصلاة الوردية. لا نعرف لماذا أراد الله، الذي هو أب ويفهم أفضل منا حاجات أبنائه، أن يطلب صلاة الوردية يومياً. لقد خضع لأبسط مستوى من أجلنا كي يسهل لنا طريق الوصول إليه. إن صلاة الوردية يمكن تلاوتها جماعياً، أو فردياً، في الكنيسة أمام القربان الأقدس، أو في المنزل مع العائلة أو بمفردنا، أو في الطريق عندما نذهب في رحلة. يتألف يومنا من 24 ساعة، فليس بالكثير علينا لو وفرنا ربع ساعة للحياة الروحية، لمحادثتنا الحميمة والودية مع الله.
الحادي عشر _ نداء لتكريم قلب مريم الطاهر: جميعنا نعرف ما الذي يمثله قلب الأم في العائلة: إنه الحب، فالحب هو الذي يدفع الأم إلى السهر قرب مهد إبنها، وإلى التضحية والعطاء والدفاع عن ولدها. يثق كل الأبناء بقلب الأم، كما يعرفون جميعهم أنهم سيجدون فيه المكان المفضل الحميم، ويحصل الأمر عينه مع العذراء مريم. هذا ما جاء في الرسالة: ” قلبي الطاهر سيكون ملجأك والطريق الذي يقودك إلى الله “. إذن فقلب مريم هو بالنسبة لجميع أبنائه الملجأ والطريق إلى الله. إن تثبيت التكريم لقلب مريم الطاهر، يعني حمل الأشخاص على تكريس كامل للارتداد والعطاء والتقدير الحميم والاحترام والحب. إذن يريد الله بروح التكريس والارتداد، أن يثبت في العالم التكريم لقلب مريم الطاهر.
الثاني عشر _ نداء لإعطاء أهمية للحياة الأبدية: نرغب جميعنا في المحافظة على الحياة الزمنية التي تمر مع الأيام والسنين والأعمال والأفراح والأحزان والآلام، ولكم كم يقل اهتمامنا بالحياة الأبدية ! ومع ذلك فهي الوحيدة الحاسمة والتي تدوم إلى الأبد. عندما خلق الله الكائنات البشرية، وجهها إلى الحياة الأبدية عبر مشاركته حياته الإلهية. لذلك خلق الله الإنسان على صورته. فالجسد البشري قد استخرج من الأرض، ولكن الإنسان حصل على الحياة من الله ذاته، من نفحة خلاقة من شفتيه. لذلك فإن نفسنا هي كائن روحي تتشارك مع حياة الله وهي خالدة. عندما لا يعود الجسد قادراً على التعاون مع عمل النفس، تتخلى عنه هذه الأخيرة وتطير نحو مركز انجذابها الذي هو الله. ولكن على مشاركتنا في الحياة الأبدية أن تكون حاسمة بين حقيقتين مختلفتين: السماء وجهنم.
الثالث عشر: نداء إلى الرسالة: الرسالة هي متابعة مهمة المسيح على الأرض، علينا أن نكون معاونين للمسيح في عمله الفادي، أي في خلاص النفوس. هناك رسالة الصلاة التي يجب أن ترتكز عليها كل الرسالات الباقية، لكي تكون فعالة ومثمرة. هناك رسالة التضحية أو الذين يضحون بأنفسهم ويتنكرون لذواتهم من أجل خير إخوتهم. كما أن هناك أيضاً رسالة المحبة التي هي حياة المسيح مولودة من جديد، عندما نسلم أنفسنا إلى الله من أجل خدمة القريب.
الرابع عشر _ نداء إلى المثابرة على عمل الخير: إن التكريس في الحق يعني تقديم أنفسنا بالكامل لله وللنفوس بدافع حب الله، كما يعني كذلك المثابرة في خدمة الله والقريب وحبهما، ومتابعة السير في الطريق التي رسمها الله في الحق. لأن شعارات العالم هي وهم ورياء. لهذا السبب يكرهنا العالم ويضطهدنا ويتجنى علينا. إن العالم يطوقنا بالحسد والغيرة والكراهية تماماً كما يفعل الشيطان. لذلك تدعونا رسالة فاطيما لمتابعة الصلاة لكي نحصل على السلام.
الخامس عشر _ نداء إلى التوقف عن إهانة الله: نحن مدعوين إلى احترام أولى وصايا شريعة الله، أي حب الله. إن وصية حب الله لا تأتي فقط بالمرتبة الأولى بالنسبة للعظمة الفريدة للشخص الموجه إليه. ولكن أيضاً لأن هذا الحب عليه أن يدفعنا إلى إتمام بقية الوصايا الأخرى بأمانة.
السادس عشر _ نداء إلى تقديس العائلة: لقد أوكل الله إلى العائلة رسالة مقدسة لمشاركته عملية الخلق. إن قراره بإشراك الكائنات الحقيرة بعملية الخلق الخاصة به، هو تجلّ عظيم لطيبة الله الأبوية. فهذا يشبه إشراكهم بقدرته على الخلق، والرغبة في استخدام أبنائه لتكثير حيوات جديدة تزهر على الأرض وتهدف إلى السماء. لقد أراد الخالق الإلهي هكذا أن يؤكل إلى العائلة رسالة مقدسة وهي تحول كائنين إلى واحد، فيشكلان وحدة بحيث لا يسمح بتفرقتهما. ومن جراء هذا الاتحاد يريد الله أن يولد كائنات أخرى، كالنبات الذي يولد الزهور والثمار.
السابع عشر _ نداء إلى كمال الحياة المسيحية: لم يأتي يسوع إلى العالم فقط كفادٍ، بل أيضاً كمعلم لكي يعلمنا الطريق الذي علينا أن نتبعه لكي نصل إلى الآب. الإرادة التي على يسوع أن يتممها هي عدم خسارة أي فرد من الذين وهبهم له الآب، ولكن تخليصهم ومساعدتهم على إحيائهم في اليوم الآخر. ولكن إحياءهم يتطلب مساهمة منا، أي إيماننا. في مسيرتنا تكون تعاليم المسيح نورنا وحياتنا، فإن تبعناها نتأكد من عدم الخطأ. من خلال ذبيحة يسوع على الصليب وإلى جانبه مريم أم الأحزان، أراد الله أن يظهر لنا عبرها قيمة الألم والتضحية وتقديم الذات من أجل الحب. اليوم في العالم لا نرغب كثيراً في التكلم عن هذه الحقيقة، بحيث نعيش بحثاً عن الملذات والأفراح الباطلة والدنيوية والرفاهية المبالغ فيها. لكن بقدر ما نهرب من الآلام بقدر ما نجد أنفسنا منغمسين في بحر الهموم والغموم والمرارة والمعاناة. فالحياة تحمل معها استشهاد الصليب، فلا يوجد في العالم من لا يتألم. لقد ورثنا سر الألم كنتيجة للخطيئة التي اقترفها أسلاف الجنس البشري.
الثامن عشر _ نداء إلى حياة تكريس كاملة لله: يقول الرب إن الذين يتابعون السير في الطريق المؤدي إلى الحياة قليلون، وكثيرون هم الذين يسلكون الطريق الواسع المؤدي إلى الهلاك. لقد اختارنا يسوع لكي نتبعه، هو البتول والمتواضع والمطيع والعفيف والفقير. الذين سمعوا يوماً صوت الله وقرروا قبول دعائه من أجل حياة تكريس كاملة، قد ارتفعوا إلى مستوى أسمى يميزهم عن الإخوة العاديين. ويطلب المعلم الإلهي إلى الذين اختارهم أن يذهبوا ليبشروا الشعوب باسمه.
التاسع عشر _ نداء إلى القداسة: إنها وصية تجبرنا على إطاعة كل الوصايا الأخرى، لأن انتهاك واحدة منها، يعني الابتعاد عن القداسة. إن واجب التوق إلى القداسة هو واجب على الجميع، حتى على الذين لا يتمتعون بالإيمان. نحن الذين اختارنا الله للقداسة، نجتهد للتجاوب مع هذه الدعوة بأفضل ما فينا، من أجل النمو الشخصي وإفادة الجميع. فعبر استعمالنا الصحيح للهبات التي منحنا إياها الله، تعلوا قداستنا بالحب الذي ندين به إلى الله وإلى القريب ونتطهر ونصبح جديرين بالحياة الأبدية، لأن الحب هو الرباط لكل قداسة حقيقية.
العشرين: نداء إلى السير على درب السماء: بدءاً من لحظة خلقنا، فإن حياتنا تمتد في السير، نحو طريق الأبدية حيث تقيم. أثناء إقامتنا على الأرض، نحن حجاج على درب السماء، هذا إن تبعنا الطريق التي رسمها الله لنا. هذا هو أهم شيء في حياتنا وهو أن نجيد التصرف، بحيث أنه بعد مغادرتنا هذا العالم وفي نهاية الأزمان، نستحق سماع يسوع يعزينا قائلاً تلك الكلمات: تعالوا يا مباركي أبي، رثوا الملك المعد لكم منذ إنشاء العالم.
وختاماً نجد أن الأخت لوسي بكتابتها ما خاطبها به صوت من السماء، تظهر ضمانةً وتأكيداً جديرين يعكس حقيقة الرؤى التي تأملتها.