سرّ التوبة سرّ الرحمة الإلهية
سرّ التوبة سرّ الرحمة الإلهية – محاضرة للأب شارل ديب
سرّ التوبة يمر بأزمة لا تخفى على أحد، فاليوم كثير من المؤمنين قد نسيه أو تناساه. بعضهم من لم يعترف منذ المناولة الأولى، والبعض الآخر يغيب عنه مفهوم هذا السرّ أو يُشكِّك في مفاعيله ونعمه. لأنه يعيش ويتلذذ في الخطيئة وغير مستعد ليتخلّى عنها. (رحمة ربنا تمرّ بأزمة اليوم، فكثير من المؤمنين قد نسيها، ولا يستفيد منها إلا القليل جداً من المؤمنين) .
ما هو سرّ التوبة ؟
إن اللفظة المتداولة لسرّ التوبة هي “الإعتراف”. ولكن من دواعي الأسف أن مفهوم تلك اللفظة قد اقتصر في أذهان الكثيرين على “الإعتراف بالخطايا”. فيما الإعتراف هو أولاً الإعتراف برحمة الله ومحبّته وهذا ما يجب النظر إليه أوّلاً والتركيز عليه في سرّ التوبة. لذلك عليّ أن أتوب عن: كل ما لا يرضي الله في حياتي ولا يحقق مشيئته، وأن أعبّر عن توبتي بعودتي إليه.
“التوبة” طريق الملكوت السماوي. التوبة ليست جانبًا سلبيًا، أي مجرد تخلِّي عن الشرّ ورفض كل خطيّة، وإنما هي عمل إيجابي فعّالاً في حياة المؤمن، وهو قبول عمل الروح القدس فينا الذي يهب ويعطي ويشبع!
التوبة هي تغيير لاِتّجاه القلب الداخلي والفكر وكل طاقات الإنسان، فبعدما كانت متّجهة نحو الأرضيّات تصير في المسيح يسوع ربّنا بالروح القدس متّجهة نحو ملكوت السماوات. بمعنى آخر فيما يرفض الإنسان الخطيّة وكل ما هو غريب عن الله إذ به ينعم بالله السماوي نفسه وكل ما له من نعمٍ وهباتٍ مشبعةٍ.
ما معنى كلمة توبة؟
كلمة توبة تعني تغيير الذهن والتحول نحو الله.
التوبة: هي طريق إلى الكمال ومسيرة التطهير والإستنارة للوصول إلى الاتحاد بالله (عودة إلى الله).
نقطة الإنطلاق في التوبة هي هذه: إكتشاف الله في حياتنا، وعي إيماني على حضوره في حياتي ودوره ومحبّته ورحمته. المبادرة هي من الله، هو يدعو إلى التوبة، “ما من أحد يستطيع أن يأتي إليّ إلاّ إذا اجتذبه الآب الذي أرسلني” (يوحنا 6/ 44).
– التوبة نار تلتهم كل ضعف بشري تنزع التهاون والكسل وثقل الجسد، وتعطي للنفس جناحاً تطير به نحو السماء، وتظهر لها خلال هذه القمة المرتفعة بطلان هذه الحياة الحاضرة . القديس يوحنا ذهبي الفم
– إن قوة التوبة كمثل هواء يطرد الغبار ويكنس الشهوات أسرع من الدخان . القديس يوحنا ذهبي الفم.
كيف أتوب؟
تفترض التوبة:
1- عودة الإنسان إلى ذاته ومعرفته لأعماق نفسه، لأن التوبة مستحيلة دون معرفة الإنسان لذاته. فالإبن الشاطر عاد إلى أبيه بعد أن رجع إلى نفسه: “فرجع إلى نفسه وقال: كم أجير لأبي يفضل عنه الخبز، وأنا أهلك هنا جوعاً! أقوم وأمضي إلى أبي” (لو 17:15-18).
هذه العودة إلى الذات هي يقظة على حقيقتنا وضعفنا، وبؤسنا ودعوتنا.
2- الشعور بالإنسحاق والحزن والتخشع: عندما يعود الإنسان إلى ذاته ويكتشف خطيئته ينسحق ويتخشّع. فالابن الشاطر رجع إلى أبيه بانسحاق كبير: “يا أبتَ إني خطئت إلى السماء وإليك، ولست أهلاً بعد ذلك لأن أُدعى لك ابناً، فاجعلني كأحد أجرائك” (لو 18:15-19).
الخطيئة تولّد في النفس حالة من الشعور بالذنب، تدفع المرء إلى الانسحاق والتخشع، فتنشئ في النفس الحزن والأسى كنتيجة للإبتعاد عن الله.
هذا الحزن، له مفعول كبير على حث الإنسان على الإعتراف بالخفايا بكل صدق.
3- يرافق التوبة الحقيقية تصميم ثابت على إصلاح الإنسان لكيانه الداخلي وسيرته، فيبتعد عن السيئات ويفعل ما يليق بالتوبة.
فالقديس أمبروسيوس يقول: “يجب على التائب أن يغسل خطيئته بالدموع، فهذه الدموع هي أفضل علاج للخاطئين؛ وأن يترك الهفوات السابقة”.
التوبة الحقيقية ثورة تهزّ أعماق الكيان الداخلي الإنساني/ وتبدّله بشكل جذري، فيصبح الله محور حياة الإنسان “الألف والياء، البداية والنهاية” (رؤ 8:1)، وتصير بذلك شريعة الله نابعة من داخل الإنسان وليست فرْضًا عليه من الخارج . إنَّ مسيرة التوبة هذه لا تعرف التوقف، فكل “وصول” إلى الله هو “صنم” و”عبادة أوثان”.
القديس سيصويه الكبير
بعد حياة طويلة حافلة بالنسك والتوبة، وهو على فراش الموت… فالشيخ سيصويه، الشهير بين آباء البريّة والذي قضى حياته بالأصوام والأسهار والأتعاب، يقول وهو على فراش الموت، عند مشاهدته بهاء المجد السماوي: إنه لم يبدأ بعد التوبة. فكم بالأحرى نحن بحاجة إلى أن نتوب. لأن التوبة هي سرّ تحرر الذات وإنطلاقها نحو الملكوت.
ونرى في إنجيل مرقس أنّ الدعوة إلى التوبة ترتبط بالإيمـان “توبـوا وآمنـوا بالإنجيـل”(مرقس 1/ 15).
فالتوبة التي يدعو إليها يسوع، ليست فقط عملاً بشرياً وجهداً إنسانياً. إنّها نعمة، هبة إلهيّة، هبة الخلاص، لأن الله وحده بوسعه أن يدعو إليها ويمنحها. وعليه لا دخول إلى الملكوت، دون توبة، وبالتالي لا حياة إنجيلية، ولا حياة روحيّة.
فالتوبة ولادة جديدة لحياة جديدة. “تبديل جذري” كامل، في عمق أعماق قلب الإنسان وكيانه( 1 طيم 2/ 4).
التوبة وصيّة إلهية ضرورية ضرورة الواسطة للخلاص : “إن لم تتوبوا، تهلكوا بأجمعكم” (لوقا 13/ 3-5).
مسارات عملية لعيش التوبة – للقديـس يوحنـا ذهبـي الفـم
مسالك التوبة و تقود كلّها إلى الجنَّة (الفردوس)
1. المسار الأول يبدأ بإدانة خطاياك الخاصَّة: عليك أن تدين خطاياك، هذا سيكون كافيًا أمام الله حتى يغفر لك، لأن الإنسان الذي يدين خطاياه الخاصة سيكون أبطأ بالعودة إلى الخطأ ثانية. حِثْ ضميرك على اتهام نفسك داخل منـزلك، حتى لا يتهمك أمام عرش دينونة الربّ.
2. المسار التاني هو تناسي الأذى الذي يلحقه بنا أعداؤنا، من أجل أن نسود على غضبنا ونغفر لإخوتنا خطاياهم التي اقترفوها بحقِّنا. “فإنه إن غفرتم للناس زلاَّتهم يغفر لكم أيضًا أبوكم السماوي.”
3. المسار الثالث إنها الصلاة الحارَّة والمتيقِّظة والنابعة من القلب.
4. المسار الرابع بالصدقة.
5. بالإضافة إلى ذلك، إذا عشت حياة بسيطة ومتواضعة وحفظت المسارات التي سردتها عليك، سوف تُنـزع عنك خطيئتك. برهانًا على ذلك العشَّار الذي لم يكن لديه أية أعمال حسنة ليخبر عنها، ولكن تواضعه الصادق أراحه من حمل خطاياه الثقيل.
لا تكنْ عديم الحركة وخاملاً، بل سِرْ كل يوم في هذه المسالك. إنها سهلة ولا يمكنك التحجُّج بعدم قدرتك على تحقيقها.
فقرك لا يقدِّم إليك عذرًا للتملُّص (للتهرب) من ذلك. فالفقر ليس عائقًا أمام: تحقيق وصايا الربّ وأن تدين خطاياك، ويمكنك أن تتصدَّق إلى الفقراء وأن تحسن إليهم دائمًا.
لقد برهنت الأرملة على هذا بعد أن وضعت فلسيها في الصندوق [مرقس 12: 42].
الآن وقد تعلَّمنا كيف نشفي جراحنا، دعنا نستعمل هذه الأدوية.
تمارس الكنيسة سرّ الاعتراف، فهل توجد أدلة كتابية وتاريخية وآبائية تدل على ضرورة أن يكون الإعتراف أمام الكاهن؟ وهل الإعتراف لله غير كافٍ؟
يسوع يدعو الخطأة إلى مائدة الملكوت:” إني لم آتِ لأدعو الصدّيقين بل الخطأة”(مر 2: 17). إنّه يدعوهم إلى التوبة التي بدونها لا يمكن الدخول إلى الملكوت.
“فرح السماء عظيم بخاطئ واحدٍ يتوب”(لو 15/7).
والبرهان الأعظم على هذه المحبّة: بذل حياته الخاصّة، “لمغفرة الخطايا” “هذا هو دمي…، الذي يُسفَكُ من أجل أناس كثيرين، لغفران الخطايا”(مت 26/28).
المسيح هو منبع غفران الخطايا بوساطة سرّ الفداء، إلا أن الكنيسة هي الوسيط لغفران الخطايا.
لكي نفهم هذه الممارسة في الكنيسة لا بد من النظر إلى الخطيئة في مفهومها المزدوج:فالخطيئة الثقيلة تحرمنا الشركة مع الله٬ وتجعلنا٬ من ثمّ٬ غير أهل للحياة الأبدية٬ وهذا ما يسمّى ”بالعقاب الأبديّ” للخطيئة.
ومن جهة أخرى٬ كلّ خطيئة، حتى الخطيئة العرضية٬ تجعلنا نتعلّق تعلّقاً مريضاً بالخلائق٬ والذي يحتاج إلى تنقية٬ سواء في هذا العالم أم بعد الموت٬ في الحالة المعروفة “بالمطهر”.
هاتان العقوبتان٬ يجب ألاّ نعتبرهما شبه إنتقام ينزله الله بنا من الخارج٬ بل نتيجة نابعة من طبيعة الخطيئة نفسها.
1487- من يخطأ يجرح الله في كرامته ومحبّته، ويجرح كرامة الانسان الذاتيّة بصفته كائناً مدعوّاً إلى أن يكون ابن لله٬ ويبلبل راحة الكنيسة الروحيّة، تلك الكنيسة التي يجب على كلّ مسيحي أن يكون فيها حجراً حيّاً.
إذن الخطيئة تُبعد الإنسان عن الله وعن المسيح، وتبعده في آنٍ معاً عن الكنيسة (جسد المسيح).
والتوبة تعيده إلى الله وتعيده في الوقت عينه إلى الكنيسة جسد المسيح. لذلك لا بدّ من حضور الكنيسة بواسطة الكاهن للإحتفال بسرّ التوبة، الذي يمنح الصفح والإرشاد اللازمين لاستمرار الحياة الروحية للمؤمن.
وبعد قيامته قال لتلاميذه بعدما نفخ في وجوههم:” اقبلوا الروح القدس من غفرتم خطاياهم تغفر لهم ومن أمسكتم عليهم خطاياهم أمسكت” (يو 20 : 22 – 23)، بقوله هذا أسس يسوع سرّ الغفران المقدّس.
إنَّ الإقرار بالخطايا هو في آنٍ معاً توبة وولادة جديدة.
إنَّ الإقرار بالخطايا قد يبدو لأول وهلة 1- صعباً على الطبيعة البشرية 2- ومناقضاً للكرامة الانسانية. 3 – فالإنسان يخجل من كشف نفسه أمام الآخرين، 4 -ويخاف من أن يحكموا عليه ويفقدوا ثقتهم به. هذا قد يصحّ إذا اعتبرنا الإعتراف مثولاً أمام قاضٍ في محكمة. لكن الإعتراف هو مثول المريض أمام الطبيب والابن أمام أبيه.
على التائب أن يدرك أن اعترافه ليس أمام الكاهن فحسب، إنما أمام الله مباشرةً وفي حضرة الكاهن. فالروح القدس هو من يغفر الخطايا عبر الكاهن، وهو الذي ينمّي الحياة الروحية.
وما الكاهن سوى “وكيل لأسرار الله”، إنَّه ينقل للتائب أولاً محبّة السيد المسيح وثانياً المغفرة التي يسكبها على التائبين.
لذا “من الضروري الإعتراف بالخطايا لمن ُسلم إليهم توزيع أسرار الله” (القديس باسيليوس الكبير).
لهذا ينبغي على التائب أن يضع نصب عينيه، أن عدم اعترافه هو خجل مرذول، وأن إقراره بخطاياه أمام كاهن لأجل نيل الشفاء، هو أفضل بكثير من الوقوف أمام ذلك المشهد العظيم، حين تُفتح الكتب، وتُعلن المستورات والخفايا.
بعد فحص الضمير وإدراك خطاياي أمام محبّة الربّ أتوجه عند الكاهن أمام المذبح، أرسم إشارة الصليب وأقول:
1- “إغفر لي يا أبتِ لأنّني أخطأت”.
2- أذكر الزمن الذي مرّ على اعترافي الأخير.
3- أقرّ بجميع خطاياي بندامة وتوبة صادقة بدون أعذار (التي تمنعني من التوبة).
4- أصغي إلى توجيهات الكاهن وإرشاداته حيث يعطيني فرضي لأكفّر وأعوّض عن خطيئتي والذي هو بمثابة دواء لشفائي.
5- أقول فعل الندامة معبّراً عن ندامتي؛
6- عندها يعطيني الكاهن الحلّة السريّة معلناً مغفرة خطاياي باسم الربّ.
7- أرسم إشارة الصليب جيّداً منطلقاً بمقاصد جديدة، متمماً صلاتي وقانوني، مُتحرّراً من خطاياي، لابساً الإنسان الجديد.
المفاعيل الروحيّة لسرّ التوبة
1- المصالحة مع الله التي بها يستعيد التائب النعمة الإلهية.
2- المصالحة مع الذات: من جراء العودة إلى الذات
الأصيلة المرتبطة بالله ارتباطاً كلياً، يستعيد الانسان
السلام والفرح، وطمأنينة الضمير والتعزية الروحية.
3- المصالحة مع الآخرين: والاتحاد بالله يكون وهماً إن
هو انغلق على الذات الشخصية، ولم ينفتح على الذات الأخوية.
4- المصالحة مع الكنيسة.
5- محو العقاب الأبدي الذي تستوجبه الخطايا الثقيل.
6- محو العقوبات الزمنية الناجمة عن الخطايا.
7- تنامي القوى الروحيّة٬ في سبيل الجهاد الروحي. وهذا لا يعني أني أصبح معصوماً عن الخطأ، لكني سوف أتقدم في التواضع والمحبّة.
ماذا تقول أمّنا مريم العذراء عن سرّ التوبة ؟
– “إنّه سلاحٌ من أجل الفرح والسلام وعلاج لشفاء النفس ومحرّضاً لنا على تغيير مسار حياتنا”.
– “يجب أن يُعطي الإعتراف دفعاً لإيمانكم وزخماً.ويجب أن يحثكم على التقرّب من يسوع”.
– “في الإعتراف تَنالون نِعماً كبرى”.
– “إستسلموا لله ليتمكّن من شفائكم، ومن تعزيتكم، ومن غفران كلّ ما يحجّر المحبّة في قلوبكم”.
جوهر الخطيئة هو تحجير المحبّة. والله يبغي شفاءَنا، ويريد أن يعيد بناءَنا نحن الذين خسرنا محبّته.
قصة حول سرّ التوبة
يُحكى أنّ إبليس كان واقفاً بالقرب من كرسي الإعتراف، وكان يتحدّث مع التائبين وهم ينتظرون دورهم للإعتراف. فسأله الكاهن :”ماذا تفعل هنا يا عدو الله؟” فأجاب :”أعيد للتائبين ما سرقته منهم. .فأنا عندما جرّبتهم سلبت منهم الحياء وها إني الآن أعيده اليهم فيخجلوا من الإعتراف فلا يتوبون.
قرار صادر عن الهيئة العليا للشؤون الإلهية
تاريخ القرار: يوم الجمعة المصادف في 16من نيسان سنة 33 ميلادية.
نص القرار: تم إعطاء فرصة لكل إنسان هارب من وجه العدالة الإلهيّة لكي يُسلّم نفسه في أقرب فرصة ممكنة وهي الآن، يُسلم نفسه للذي يعفو فينجو. وسيتغاضى الله عن أزمنة الجهل التي سلكها الإنسان طوال حياته، لأجل محبّته الكبيرة، وهذا العفو هو عفو شامل للجميع: لكل قبيلة وشعب وأمة، صغار وكبار، جهلاء وحكماء… والعفو الإلهي مجاني، تم دفع كل مخالفات وتعديات الإنسان على الله بواسطة يسوع المسيح الذي مات على الصليب، كما إن مدة هذا العفو هو زمان النعمة الحاضر.
الأب شارل ديب