أعياد

تقدمة مريم الى الهيكل بحسب رؤيا ماريا فالتورتا

وصف رائع وتفاصيل مهمّة لحدث دخول العذراء الى الهيكل

في إحدى الرؤى شاهدت ماريا فالتورتا كيف تمّت تقدمة مريم الى الهيكل وهي في الثالثة من العمر منذ أن أخذاها والداها الى أورشليم، وودّعاها قبل أن تدخل الهيكل وتُغلق الأبواب خلفها.

أرى مريم بين أبيها وأمّها يسيرون في شوارع أورشليم.

يتوقّف المارّة لمشاهدة الطفلة الجميلة باللباس الأبيض بياض الثلج، المتدثِّرة شالاً رقيقاً جدّاً، يبدو لي برسومه من أوراق وزهور وتكاثف ألوان في أرضيّته أنّه نفسه الذي كانت حنّة ترتديه يوم تطهيرها. الفرق فقط هو أنّ حنّة حينما ارتدته لم يتجاوز نطاقها، بينما، وهو على مريم، يصل إلى الأرض، ويلفّها وشاح أبيض رقيق ومضيء بسحر نادر.

لون شعرها الأشقر المنسرح على كتفيها وعلى عنقها الرهيف يشـفّ من خلال الأرضيّة الرقيقة للغاية، حيث لا رسوم على الوشاح المثبت عند الجبهة بشريطة بلون زرقة السماء فاتحة جدّاً حيث كانت أمّها قد طَرَّزَت عليها زنابق صغيرة فضيّة.

الثوب، كما سبق وقلنا، أبيض ناصع ويصل إلى الأرض، وعندما تسير، بالكاد يمكن رؤية قدميها الصغيرتين في حذائها الأبيض. أمّا يداها الصغيرتان فتبدوان كتويجي “مغنولية” تَخرُجان من كُمَّين طويلين. وهكذا، فما عدا الإطار الأزرق في الشريطة التي على جبهتها، لا لون سوى الأبيض، وكأنّ مريم تلبس الثلج.

أمّا يواكيم وحنّة، فيواكيم يرتدي ثوب يوم التطهير ذاته وحنّة ترتدي البنفسجيّ الداكن جدّاً. حتّى المعطف الذي يغطّي رأسها فهو بلون بنفسجيّ داكن، وقد كان منسدلاً على عينيها، عيني أمّ مسكينة، الحمراوين من كثرة البكاء، بينما هما لا تريدان البكاء، كما لا تريدان أن يَرَى أحد الدموع فيهما، ولكنّهما لم تستطيعا الإحجام عن البكاء تحت غطاء المعطف. والحَذَر هذا كان من المارّة، وحتّى من يواكيم صاحب العين الصافية في العادة، والمغرورقة اليوم والمعكرة بسبب الدموع التي انسكبَت منها وما زالت تسيل. وهو يسير منحنياً كثيراً تحت وشاح أُعِدّ كعمامة لها جناحان يتدلّيان على مدى وجهه. يبدو يواكيم الآن عجوزاً للغاية، حتّى ليظنّه من يراه جدّ أو حتّى جدّ والد الطفلة الصغيرة جدّاً التي يمسكها بيده. الحزن على فقدانها جعل مشية الأب المسكين متثاقلة، والإعياء البادي على كلّ مظهره جعله يبدو وكأنّه كبر عشرين سنة. أمّا وجهه المنهك والحزين فلا يجعله يبدو هرماً فقط، بل وكأنّه وجه مريض. والفم يرتعش قليلاً بين ثنيتي جلد ظاهرتين اليوم بجلاء على طرفي الأنف.

يحاول الاثنان إخفاء دموعهما، ولكن حتّى ولو نجحا مع أغلب الناس، فإنّ ذلك كان مستحيلاً مع مريم، فإنّها، بسبب قامتها الصغيرة، تنظر من أسفل للأعلى، وبشكل متناوب إلى أبيها وإلى أمّها. وهما يحاولان الابتسام بشفاه مرتعشة، ويشدّان أيديهما بقوّة أكثر على يدي مريم الصغيرتين كلّما نَظَرَت إليهما مبتسمة. كانت تلحّ عليهما فكرة «ها هي مرّة أخرى على الأقلّ نرى فيها هذه الابتسامة.»

يسيرون ببطء وتؤدة وكأنّهم يريدون إطالة مسافة الطريق قدر المستطاع، فكانوا يتذرّعون بأتفه الأسباب للتوقّف… ولكن لا بدّ لهذه المسافة مهما طالت أن تنتهي أخيراً! إنّها بحقّ على وشك أن تنتهي. ها هو حائط سور الهيكل في نهاية هذه الطريق الصاعدة؛ أجهَشَت حنّة وشدّت على يد مريم الصغيرة بقوّة.

من تحت قنطرة منخفضة عند تقاطع طرق يَصدُر صوت يقول: «حنّة، أيّتها المحبوبة، أنا معكِ!» فأليصابات التي كانت تنتظرها بالتأكيد تلاقيها وتضمّها إلى صدرها. وبما أن حنّة كانت تبكي فقد قالت لها: «تعالي، تعالي ندخل قليلاً إلى هذا المنزل، يا صديقتي، ومن ثمّ نذهب معاً. زكريّا هنا.»

يَدخُلون جميعاً إلى غرفة منخفضة السقف ومظلمة، تلمع فيها نار كبيرة، فتنسحب المعلّمة، وهي بالتأكيد صديقة أليصابات، أمّا حنّة فلا تعرفها، تنسحب بأدب موفّرة للجماعة بعض الحريّة.

أخذَت حنّة تشرح موقفها من خلال دموعها: «لا تظنّي أنّني نادمة، أو أنّني أعطي الربّ كنزي بأسف… ولكنّه القلب… آه! قلبي! كم يَختَبر من الآلام، قلبي هذا العجوز الذي سيعود الآن إلى عزلته ووحدته، عزلة الأمّ التي لا وَلد لها ووحدتها… لو كنتِ تشعرين بذلك…»

«إنّي أدرك ذلك تماماً، يا حنّتي… إلا أنكِ امرأة صالحة والرب سيعزّيكِ في وحدتكِ. مريم ستصلّي لله كي يمنح السلام لوالدتها، أليس كذلك؟»

تُداعِب مريم يدي والدتها وتقبّلهما، ثمّ تمرّرهما على وجهها لتداعباه، أمّا حنّة فتشدّ على الوجه الصغير بيديها وتقبّله، تقبّله، إنّها لم تشبع منه تقبيلاً بعد.

يَدخُل زكريّا ويُلقي السلام: «سلام الربّ على الأبرار.» فيجيبه يواكيم: «نعم، اطلُب لنا السلام، فقلوبنا ترتعد من تقديمها. إنّها كتقدمة ابراهيم عندما كان يَصعَد الجبل، ولكنّنا لن نجد تقدمة أخرى نفتديها بها. ونحن طبعاً لا نريد ذلك لأنّنا أوفياء لله. ولكنّنا نتألّم، يا زكريا، يا كاهن الربّ، افهمنا ولا تستنكر ذلك.»

«أبداً؛ بل على العكس، فإنّ ألمكما الذي يعرف ألاّ يتعدّى الحدود المسموح بها، ولا يحملكما إلى الكفر، يُعَلّمني حبّ الباري تعالى. ولكن اطمئنّا فإن المعلّمة حنّة ستهتمّ بزهرة داود وهارون هذه أيّما اهتمام. فالآن هي الزنبقة الوحيدة في الهيكل المتحدّرة من نسل داود المقدّس. سنهتمّ بها كما بجوهرة مَلَكيّة. فمع أنّه قد بَلَغَ ملء الزمان، ويفترض بالأمّهات المتحدّرات من نسل داود تكريس بناتهنّ للهيكل، لأنّه من عذراء من أصل داود سيخرج الماسيا، وبسبب قلّة الإيمان، فالأمكنة المخصّصة للعذارى قد أصبَحَت خالية. هناك القليلات جدّاً في الهيكل، وليس فيهنّ واحدة من أصل ملوكيّ منذ أن خَرَجَت سارة التي لأليشع لتتزوّج منذ ثلاث سنوات. صحيح أنّه يلزمنا ستّ “خمسيّات” Lustres بعد لنصل إلى العهد، إنّما… لا بأس. نأمل أن تكون مريم هي الأولى من بين عذارى كثيرات من نسل داود أمام الحجاب المقدس… ثمّ… من يدري؟…» لم يضف زكريّا شيئاً آخر، ولكنّه ينظر إلى مريم وهو مستغرق في التفكير، ثمّ يتابع: «وأنا أيضاً سأسهر عليها. أنا كاهن، ولي حقّ الدخول. سأستغلّ ذلك من أجل هذا الملاك. وكذلك أليصابات ستأتي كثيراً لرؤيتها…»

«آه! بكلّ تأكيد! أنا في حاجة ماسّة إلى الله، وسوف آتي لأطلب من هذه الطفلة أن تحمل طلباتي إلى الأزليّ.»

تتمالك حنّة نفسها، ولكي ترفع من معنويّاتها تردف أليصابات: «أليس هذا وشاح زواجكِ؟ أو أنّكِ قد خُطتِ طرحة جديدة؟»

إنّه وشاحي، وسأكرّسه معها للربّ. لم أعد أرى جيّداً… ثمّ إنّ دَخْلَنا قد شحّ كثيراً بسبب الضرائب من جهة ونوائب الدهر من الجهة الأخرى. لم أستطع زيادة المصاريف، فحَضَّرتُ لها فقط جهازاً فخماً لإقامتها في بيت الربّ، ولما بعد ذلك… ذلك أنّني أعتقد بأنّي لن أُلبِسها أنا نفسي في احتفالات زفافها… بينما أريد أن تكون يد أمّها دائماً، حتّى وهي باردة وقاصرة، هي التي تزيّنها لعرسها، والتي تنسج لها بياضات وثياب العرس.»

«آه! لماذا هذه الأفكار التعيسة؟»

«أنا عجوز يا نسيبتي. لم أشعر بعجزي يوماً كما أشعر به الآن تحت وطأة هذا الألم. آخر قوى حياتي قد وهبتُها لهذه الزهرة، للحَمَل بها وتغذيتها، والآن… الآن… ألم فقدانها يعصف بهذه القوى الأخيرة ويبدّدها.»

«يجب ألّا تقولي هذا أمام يواكيم.»

«إنّكِ على حقّ. سأفكّر أنّ أحيَى لزوجي.»

يتظاهَر يواكيم بأنّه لم يسمع شيئاً وأنّ انتباهه منصبّ على زكريّا، ولكنّه سَمِع وأطلَق زفرة عميقة واغرورقت عيناه بالدموع.

يقول زكريّا: «نحن الآن بالضبط بين الساعة الثالثة والسادسة، أظنّ أنّ وقت الذهاب قد حان.»

ينهضون لارتداء معاطفهم والانطلاق. إنّما قبل خروجهم تركع مريم عند العتبة وذراعاها مفتوحتان: شاروبيم صغير يتوسّل: «أبي! أمّي! امنحاني بركتكما!»

لم تَبكِ هذه الشُّجاعة الصغيرة، ولكنّ شفتيها ترتعشان وصوتها، المتكسّر بنشيج مكتوم، يبدو عليه أكثر من أيّ وقت مضى أنين يمامة مرتعش. ويشحب وجهها، أمّا عيناها فقد حملتا نظرة قلق سلّمته لله، وتتعاظم بقوّة لدرجة اللامعقول، ودونما معاناة في الأعماق، ذلك ما سوف أشاهده فيما بعد على الجلجلة وأمام القبر.

يُبارِكها الأبوان ويقبّلانها مرّة واثنتين بل حتّى عشر مرات، ذلك أنّهما لم يكونا ليستطيعا أن يشبَعا منها. تبكي أليصابات بصمت، وزكريّا الذي لم يكن يريد إظهار ذلك تأثّر تأثّراً عميقاً. يخرجون حسب الترتيب السابق، مريم بين أمّها وأبيها، وأمامهم زكريّا وزوجته. وها هم داخل أسوار الهيكل.

تقدمة مريم الى الهيكل

«سأمضي إلى كبير الكهنة، أمّا أنتم فاصعَدوا إلى الشرفة الكبيرة.»

يجتازون ثلاث ساحات وثلاثة أروقة، وها هم عند أسفل مكعّب كبير من المرمر المتوّج بالذهب. وكلّ قبّة محدّبة كنصف برتقالة ضخمة تسطع تحت الشمس التي هي الآن، عند الظهيرة، تُسقِط أشعّتها مباشرة على باحة كبيرة محيطة ببناء مهيب، وتملأ أشعّتها السطح الكبير والسلّم الأثريّ الذي يؤدّي إلى الهيكل. فقط رواق الهيكل المقابل للسلّم الخارجيّ، على طول الواجهة، هو في الظلّ، وكذلك بوّابة البرونز والذهب العملاقة فهي أكثر عتمة ومهابة ولكنّها تتباين مع أضواء كثيرة.

تَظهَر مريم كأكثر ما يكون بياض الثلج تحت هذه الشمس الكبيرة. ها هي عند أسفل السلّم بين أبيها وأمّها. كم تراها تخفق قلوب الثلاثة! وأليصابات بجانب حنّة، ولكنّها متأخّرة عنها مقدار نصف خطوة.

صوت إعصار فضّي الرنّة، ثمّ يَدور الباب على مفصّلاته وكأنّه صوت إنذار من قيثارة، بينما الباب يَدور على كرات برونزية. ويَظهَر القسم الداخليّ من الهيكل بمصابيحه، ويتقدّم موكب باتّجاه الباب، قادماً من العمق، موكب مهيب يرافقه عزف أبواق فضّية وغيوم من البخور والأنوار.

عند العتبة، في المقدّمة يَظهَر أحدهم، يفترض أنّه كبير الكهنة. عجوز جليل بلباس كتّاني ناعم جدّاً، وفوقه جلباب كتّاني أيضاً ولكنّه أقصر منه، وفوقهما أيضا حلّة Chasuble. شيء وسط بين بدلة القدّاس ولباس الشمامسة مع تعدّد بالألوان: ذهب وأرجوان، بنفسجيّ وأبيض، تتداخل معاً وتلمع كأحجار كريمة تحت الشمس؛ وفوق كلّ هذا جوهرتان حقيقيّتان تلمعان أيضاً بحيويّة أكثر على مستوى الكتفين، قد تكونان عروتين مع فصّين ثمّينين. وعلى صدره لوحة متلألئة بالجواهر ومحمولة بسلسلة ذهبيّة. مناجد وتزيينات أخرى تلمع في أسفل الجلباب القصير، والذهب يبرق على الجبهة في القسم الأعلى لقلنسوة تذكرني بتلك التي يعتمرها الكهنة الأورثوذكسيّون، ولكنّها مدوّرة بدل أن تكون مروّسة كالتي للكهنة الكاثوليكيّين.

ويتقدّم الشخص المهيب بمفرده إلى الأمام حتّى بداية السلّم الخارجيّ في نور الشمس المذهّبة التي تجعله أكثر روعة. ينتظر الآخرون بترتيب دائريّ خارج الباب، تحت الرواق المظلّل. إلى اليسار هناك مجموعة من الفتيات باللباس الأبيض، مع المعلّمة حنّة ونساء أخريات مسنّات، وهنّ بالتأكيد معلّمات.

ينظر كبير الكهنة إلى الصغيرة ويبتسم. كانت تبدو لـه صغيرة جدّاً عند أسفل هذا السلّم الخليق بهيكل مصريّ! يرفع يديه إلى السماء مصلّياً، فيحني الجميع رؤوسهم، متلاشين أمام جلالة الكهنوت المتّحدة بالجلالة الأزليّة. ثمّ يشير إلى مريم.

تنفَصِل عن والديها وتصعَد، وكالمسحورة المفتونة ترتقي الدرجات. تبتسم. تبتسم لظلّ الهيكل حيث ينسدل الحجاب الثمّين… إنّها الآن في أعلى السلّم، عند قدمي كبير الكهنة الذي يضع يديه على رأسها. لقد قُبِلَت الذبيحة. هل حوى الهيكل قبلاً قرباناً أطهر منها؟

ثمّ يَلتَفِت واضعاً يده على كتفها، كما لو كان يبغي أن يقودها إلى المذبح، وهي الحَمَل الذي بغير عيب، يقودها إلى باب الهيكل، وقبل أن يُدخِلها يسألها: «يا مريم بنت داود هل هذه هي رغبتكِ؟»

تجيبه بـ نعم فضّية الرنّة. فيهتف: «ادخلي إذن وسيري بحضوري وكوني كاملة.»

تدخل مريم وتبتلعها الظلمة، ثمّ تتبعها مجموعة العذارى والمعلّمات تليهن جماعة اللاويّين فتحجبها أكثر، ثمّ تفصلها.

 

لم تعد هناك… يدور الآن الباب على مفصّلاته بصوت متناغم، وتضيق فتحته رويداً، رويداً، تاركة مجالاً لرؤية الموكب الذي يتّجه صوب الأقداس. لم يعد الآن هناك سوى شقّ يتلاشى، ثمّ لا شيء، وأخيراً لقد أصبحَت في الحرم.

ولدى آخر صوت للمفصّلات المجلجلة، يجيب صوت العجوزين الذي يجهش، وبصرخة واحدة: «مريم! ابنتي!» ثمّ بأنينين متقاطعين: «حنّة!» «يواكيم!» ويختتمان: «لنمجّد الربّ الذي قَبِلَها في بيته، ويقودها على طريقه.»

هكذا انتهى كلّ شيء.

اشترك بالنشرة البريدية للموقع

أدخل بريدك الإلكتروني للإشتراك في هذا الموقع لتستقبل أحدث المواضيع من خلال البريد الإلكتروني.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق