البابا فرنسيس يفتتح عام 2018 بدعوة الى تسليم السنة الجديدة الى مريم أمّ الله لتحفظها وتحقّق فيها السلام
عظة البابا فرنسيس في أول السنة
نفتتح هذا العام الجديد 2018 باسم أمّ الله. لقب أمّ الله هو أهم لقب لسيدتنا العذراء. لكن قد نتساءل لماذا نقول أمّ الله وليس أمّ يسوع. في الماضي أراد البعض أن يكتفوا ببساطة باللقب الثاني (أمّ يسوع)، لكن الكنيسة أعلنت أنّ مريم هي أمّ الله. يجب أن نكون شاكرين، لأن هذه الكلمات تحتوي على حقيقة رائعة عن الله وعن أنفسنا. منذ اللحظة التي تجسّد فيها الرب من مريم العذراء، وعلى مرّ العصور، أخذ بشريّتنا. لم يعد هناك الله بدون الإنسان؛ الجسد الذي أخذه يسوع من أمّه هو جسدنا، الآن والى الأبد. أن ندعو مريم أمّ الله يذكّرنا بهذا: الله قريب من البشرية، حتى عندما كان طفلاً تحمله أمّه في رحمها.
في أمّه، أصبح إله السماوات، الإله الأزلي، صغيراً، ليس فقط ليكون معنا بل ليكون مثلنا. هذه هي المعجزة، هذا هو الإبداع! لم يعد الإنسان وحيداً، لم يعد يتيماً، بل إبناً الى الأبد. تبدأ هذه السنة بهذا الإبداع. ونحن نعلنه بالقول: يا أمّ الله!
إن سعادتنا هي معرفة أن عزلتنا قد انتهت. إنه الجمال في معرفة أننا أبناء محبوبون، ومعرفة أن هذه البنوّة لا يمكن أن تؤخذ منا. وهي في أن نرى انعكاساً لأنفسنا في الله الضعيف والرضيع يستريح على ذراع والدته، وأن ندرك أن الإنسانية ثمينة ومقدسة عند الرب. منذ الآن، أن نخدم الحياة البشرية هي أن نخدم الله.
هنا هي حقيقة حياة الله. كل الحياة، من الحياة في رحم الأمّ إلى كبار السن، وحياة الذين يعانوا والمرضى، والمهمومين وحتى المرفوضين، هم موضع ترحيب، حبّ ومساعدة…
يقول الإنجيل إن مريم احتفظت بكل هذه الأشياء، وتأملتها في قلبها. ما هي هذه الأشياء؟ كانت أفراح وأحزان. من جهة، ولادة يسوع، ومحبة يوسف، زيارة الرعاة، في تلك الليلة المنيرة. ولكن من ناحية أخرى، مستقبل غير مؤكد، وتشرّد “إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ.” (لوقا 2: 7)، وحشة الرفض، وخيبة الأمل من الحاجة إلى ولادة يسوع في اسطبل. الآمال والمخاوف، النور والظلام: كل هذه الأمور سكنت في قلب مريم. ماذا فعلت؟ تأمّلت فيها، وهذا يعني أنها أسكنتها، مع الله، في قلبها. لم تُخفي شيئاً؛ لم تُغلق على شيء داخلها من خلال الشفقة الذاتية أو الإستياء. بدلاً من ذلك أعطت كل شيء الى الله. هذه هي الطريقة التي “حفظت” تلك الأشياء. نحن “نحفظ” الأشياء عندما نسلّمها: من خلال عدم السماح لحياتنا أن تصبح فريسة للخوف أو القلق أو الخرافات، من خلال عدم غلق قلوبنا أو محاولة النسيان، ولكن عن طريق تحويل كل شيء إلى حوار مع الله. الله، الذي يبقينا في قلبه، ثم يأتي ليسكن في حياتنا.
هذا هو إذن، سرّ أمّ الله: الحفظ بصمت على كل الأمور وجلبها الى الله. وذلك حصل، يقول الإنجيل، في قلبها. القلب يجعلنا ننظر الى جوهر الإنسان، أو الى عواطفه وحياته. في بداية هذه السنة، نحن أيضاً، كمسيحيين في طريق حجّنا، نشعر بالحاجة بأن نخرج من المركز، أن نترك وراءنا أعباء الماضي وأن نبدأ مجدّداً من الأمور التي تُهمّ حقّاً. اليوم، توجد أمامنا نقطة الإنطلاق: امّ الله. بالنسبة لمريم ما يريد الله لنا أن نكون، ما يريد لكنيسته أن تكون هو: الأم اللطيفة والمتواضعة، الفقيرة بالأمور المادية والغنية بالمحبّة، الخالية من الخطيئة والمتّحدة مع يسوع، محتفظين بالله في قلوبنا والقريب في حياتنا. أن نبدأ من جديد، دعونا ننظر الى أمّنا. ففي قلبها ينبض قلب الكنيسة… علينا أن نبدأ من جديد من المذود ، من الأمّ التي تحمل الله بين ذراعيها.
التعبّد لمريم ليس فرض روحي؛ هو فرض من فروض الحياة المسيحية. بالنظر الى الأمّ، نحن مدعوون أن نترك كل أنواع الأعباء عديمة الفائدة وإعادة اكتشاف ما يهمّ حقاّ. هبة الأم، هبة كل أم وكل امرأة، هي ثمينة جداً للكنيسة، لأنها أمّ وامرأة أيضاً. في حين أن الرجل غالباً ما يستخلص ويؤكد ويفرض الأفكار، المرأة، الأمّ، يعرف كيف “تحفظ”، وتضع الأمور معاً في قلبها، أن تمنح الحياة.
نحن كلنا بحاجة الى قلب جديد شبيه بقلب مريم وهو قلب يعلم كيفية حفظ حب الله العذب والشعور بدقات قلب كل من حولنا. لتحفظ امّ الله، التي هي أعظم كائن بشري خلقه الله، وتحرس هذه السنة، وتحقّق سلام ابنها في قلوبنا ولعالمنا. وكأبناء، أدعوكم ببساطة الى استقبالها كما فعل المسيحيون في أفسس بحضور أساقفتهم: “يا أمّ الله القديسة”. لنكرر سوياً ونحن ننظر اليها، هذه التحية ثلاث مرات (يلتفت البابا نحو تمثال العذراء بجانب المذبح): “يا أمّ الله القديسة”، “يا أمّ الله القديسة”، “يا أمّ الله القديسة”!