ما هو العذاب الذي يُرعب القديسين وماذا يقولون عن أعظم العذابات التي يشعر بها الهالكين في جهنّم
للقديس ألفونس دي ليكوري من كتابه الاستعداد للموت
إنّ عذابات الحسّ عند الهالكين في جهنّم هي كلا شيء بالنسبة الى عذاب الخسران. لأنه لا يصوّر حقيقة الجحيم، لا ظلامه الحالك، ولا نتانة رائحته القتّالة، ولا صراخ الهالكين وعويلهم، ولا ناره الآكلة. بل إنما يصوّر حقيقة جهنّم مجرّد خسران الله. وهذا هو أعظم العذابات.
قال القديس برنونا “إنه تضاف عذابات على عذابات ومع ذلك إن عذاب خسران الله لا يزول” وقال القديس يوحنا فم الذهب “إنه إذا اجتمعت معاً عذابات ألف جهنّم، لا يمكنها أن تصوّر حقيقة عذاب خسران الله”. ويضيف الى ذلك القديس أوغسطينوس بقوله “أنه إذا أمكن للهالكين في جهنّم أن يتمتّعوا بمشاهدة الله، لا يعودون يشعرون بشيء من عذاباتهم الحسيّة كلها. بل إن الجحيم نفسه يضحي لديهم فردوساً سماوياً”.
فلكي يمكن للقارئ ان يفهم على نوع ما قليلاً من حقيقة عذاب الخسران هذا، فليتأمل في إنسان ما مثلاً تُفقد منه حوهرة كان يمتلكها مساوية قيمتها ألف درهم. فلا شك في أنه يشعر بغمّ شديد على فقدها. ولكن إذا كان ثمنها يساوي قيمة ألفَي درهم، فيكون حزنه أشد لفقدها. وهكذا إن كانت قيمتها أربعة آلاف، يتضاعف ويزيد عذاب غمّه وحزنه وهلمّ جرّاً.
أي بمقدار ما يزيد ثمن تلك الجوهرة، فبمقدار ذلك يتضاعف التوجّع على خسرانها.
فهات الآن أن نتأمّل في حقيقة الخير الذي فقده الهالك. فإنما هو خسر خيراً غير متناهٍ الذي هو الله. ولذلك يوضح القديس توما اللاهوتي أن الهالك يشعر بعذاب من قبل هذه الخسارة على نوعٍ غير متناهٍ، إذ يقول هكذا “إنّ عذاب الخسران يكون غير متناهٍ، عند من يكون خسر خيراً غير متناهٍ”.
فهذا العذاب وحده هو الذي كان يخاف منه القديسون. والآن يخاف منه الأبرار الذين في هذه الحياة، كقول القديس أوغسطينوس “إنه يخاف من هذا العذاب أحبّاء الله لا أعداؤه”. والقديس أغناطيوس مؤسس الرهبنة اليسوعية كان من عادته أن يقول في مناجاته الله هكذا “إني أحتمل يا ربي كل نوع من العذابات ما عدا هذا فقط، وهو أن أوجد خالياً منك”. إلا أن الخطأة الذين يعيشون الأشهر والسنين من غير الله، لا يعتبرون شيئاً هذا العذاب لأن هؤلاء الأشقياء يتبعون أميالهم، عائشين في ظلمات الآلام. ولكنهم حين موتهم يعرفون جيداً عظم الخير الذين خسروه.
قال القديس أنطونيوس “إن النفس بعد انفصالها من جسدها تعرف جيداً أن الله هو الخير الأعظم، وأنها هي إنما خُلقت لأجله تعالى فقط”. ولذلك هي تصعد حالاً لكي تتّحد بخيرها الأعظم، ولكن إذا وُجدت في حال الخطيئة، فالله يطردها عنه. على أنه إذا شاهد أحد الكلاب أمامه أرنباً ولكنه وُجد مقيّداً بسلسلة فأي اغتصاب يمارسه ليمكّنه من النجاة من القيد، لكي يهجم على الصيدة، فالنفس عند انفصالها عن الجسد، توجد بنوع طبيعي غريزي منجذبة نحو الله، غير أن الخطيئة هي التي تصدّها عنه تعالى وتفصلها من مركزها هذا الوحيد، كقول النبي أشعياء “إنما فَصَلت بينكم وبين إلهكم أثامكم وخطاياكم صرفت وجهه عنكم” (2:59) فإذاً إن الهلاك كله، وعذاب جهنّم جميعه إنما هو قائم في هذه الكلمة الأولى من الحكم الإلهي المبرز ضد الهالكين وهي “إذهبوا عني يا ملاعين”.
قال القديس يوحنا فم الذهب “لو أن المسيح كان يحكم على الهالكين بعذاب ألف جهنّم، ولم يقل لهم هذه الكلمة اي إذهبوا عني، لما كان عذابهم شيئاً” لأن قوله أغربوا عني يعني ما عدت أريد أن تشاهدوا وجهي.
فداود الملك حينما عاقب ابنه أبشالوم بألا يرى وجهه، فأبشالوم إذ لم يمكنه احتمال هذا العقاب، أرسل يقول لأبيه إما أن يسمح له بأن يأتي ليراه، وإما أن يُعدمه هذه الحياة (الملوك الثاني 14). ثم أن أحد المتقدّمين في ديوان الملك فيليبس الثاني لأجل أنه عوقب من هذا الملك بألا عاد يظهر أمامه، لأنه رآه في الكنيسة يصنع ما لا يليق، فقد حصل ذلك الرجل على غمّ بهذا المقدار شديد. حتى أنه بعد سماعه من الملك الحتم المذكور، خرج من الكنيسة ومضى الى بيته فمات قهراً وحزناً.
فكم يكون عذاب النفس التي عند انفصالها من جسدها في حال الخطيئة، تسمع من فم الله “أغربي عني بعيداً لأني لا أريد أن أراكِ بعد. كقوله تعالى في سفر تثنية الإشتراع “ويشتد غضبي عليهم في ذلك الوقت وأتركهم وأحجب وجهي عنهم” (17:31). ففي يوم الدينونة العظيم يقول يسوع المسيح للهالكين، ما كان عزّ وجلّ سبق وقاله بفم النبي هوشع “من أجل أنكم لستم أمّتي وأنا لا أكون لكم” (9:1)
فأي عذاب أشد من هذا على ابنٍ يكون حاضراً عند أبيه حين موته، ويقول له “يا أبتاه أنا ما عدت أراك بعد”. ومثله على عروس تقول لعيرسها وقت موته “واحستراه يا قريني أنا ما عدت أشاهدك مرة أخرى”. آواه لو كان يمكننا أن نسمع بكاء إحدى الأنفس الهالكة، ولو كنا نسألها بقولنا “لماذا أنتِ تبكين بمرارة هذا حدّها؟” فلكانت هي ترد علينا الجواب بهذه الكلمات فقط وهي “إنما أبكي هكذا لأني خسرت الله ولن أقدر أن أراه بعد”.
بل لو كان ممكناً للهالكين قلّما يكون أن يحبّوا الله في جهنّم ويُطابقوا إرادتهم لأحكامه، لكانوا حقّاً سعيدين، لكن لا، لا يستطيعون ذلك. لأنهم لو قدروا على نواله، لما عادت جهنّم لديهم مكاناً للعذاب. فالنفس المنكودة الحظ إنما لا تقدر في الجحيم أن تسلّم ذاتها لإرادة الله، لأنها وُجدت عدوّة للإرادة الإلهية، ثم لا تستطيع أن تحبّ الله بعد، لكنها تبغضه ولا تزال تبغضه دائماً وهذا هو جهنّمها، أي معرفتها أن الله هو خير غير متناهٍ، وملاحظتها ذاتها عدوّة له مضطرة لأن تبغضه. في الوقت عينه الذي فيه تعلم هي جيداً أن الله يستحق في ذاته حبّا غير متناهٍ.
فالقديسة كاترينا من جنوا إذ سألت الشيطان مرّة ما قائلة له “من أنت” قد أجابها “إني أنا المعدوم من حبّ الله”. فالهالك يبغض الله ويلعنه ويلعن أيضاً الخيرات والنِعم التي قد اقتبلها منه، أي خلقه من العدم الى الوجود، افتداءه بسر التجسّد، والأسرار المقدسة خاصة المعمودية والتوبة، وفوق كل شيء سر القربان الأقدس.
ثم يبغض الملائكة كافة، والقديسين أجمعين الذين كانوا شفعاءه، ويبغض مريم والدة الإله أكثر من الجميع، ولكنه بالوجه الأول يلعن الثالوث الأقدس، خاصة الأقنوم الثاني منهم كلمة الله الذي يوماّ ما قد مات من أجل خلاصة على عود الصليب، لاعناً جراحاته المقدسة أيضاً ودمه الزكي وآلامه وموته من أجله؛