مختارات عالمية

الأحداث العجيبة والمجهولة التي جرت خلال أحد الشعانين كما شاهدتها ماريا داغريدا وشرحتها السيّدة العذراء

من كتاب الحياة الإلهية للعذراء الفائقة القداسة
الفصل الثامن عشر

في هذا الوقت أقام لعازر من الموت في بيت عنيا حيث عاد إلى هناك ستة ايام قبل الفصح. وأثناء الوليمة التي قُدّمت له، أظهرت لمريم المجدلية بطريقتها الخاصة كرم تقواها. فغسلت قدميه بطيب كانت قد اشترته بثمن مرتفع ونشّفتهما بشعرها. ثم كسرت الزجاجة الرخامية التي كانت تحتوي هذا العطر السائل وسكبت النقاط الأخيرة على رأس مخلّصها الرحيم كما فعلت من قبل عند ارتدادها.

فتذمّر يهوذا الطمّاع علانية، من هذه التائبة الشهيرة وبعدئذٍ من السيّد الذي حبّذ فعلها. واتّخذ قرار المؤامرة لهلاك معلّمه الإلهي، وملؤه الحقد والغيظ.

فأرسلت العذراء الكليّة القداسة وهي متكدّرة جدًّا، من هذا الإثم في طلب المذنب التعِس في الليلة ذاتها وكشفت له بكلمات مؤثّرة للغاية وبدموع غزيرة شناعة خطّته ورجته أن يحوّل انتقامه نحوها هي إذا ما تشبّث باستيائه من ابنها الإلهي. ووهبته لأجل ذلك عدة تقادم كانت قد استلمتها من مريم المجدلية. وعوض أن يلين من كثرة الصلاح هذه تصلّب بالأكثر وعبّر عن غضبه الأهم بصمت مظلم. ومع ذلك فإنّ أمّ الرحمة لم تيأس وذهبت تطلب ولدها وكلّمته بكثير من الحبّ الرؤوف وهي ساجدة عند قدميه فائضة بالدموع حتى شعر من جرّاء ذلك بتعزية حسيّة من الحزن المميت المسبَّب من تلك الإساءة.

وبقيت بعدئذٍ في مصلاها وكانت تقتدي به كعادتها بصلواته وممارساته التقوية. فسجد أمام جلال أبيه وتقبّل بالخضوع الأكثر سموًّا جميع أوجاع وإهانات آلامه من أجل مجد أبيه وخلاص العالم. فبكت معه أمّه الكليّة القداسة وضمّت نفسها لتقدمته. وكانت هذه الذبيحة المزدوجة مقبولة للغاية عند الآب الأزلي حتى أنه ظهر قبل منتصف الليل بشكل بشري مع الروح القدس وجمهور غفير من الملائكة وقال لابنه: “إنّي أتقبّل ذبيحتك وأرضى أن تُطبّق عليك صرامة عدلي، لمغفرة آثام البشر. وأنتِ يا مريم! أريدك أن تضحّي مثلي، بابنك من أجل فداء العالم.”

“يا رب” أجابت مريم، “أنا لست سوى غبار، وإني ألف مرة غير مستحقّة أن أكون أمًّا لابنك. فإني أقدّمه لك وأقدّم ذاتي معه. فاجعلني أتوسّل إليك أن أتألّم معه”.

فرفع الله عندئذٍ الابن والأمّ ووضع الكلمة المتجسّد على عرشه إلى يمينه، ولهذا المشهد طارت نفسها بفرح مقدّس واكتست بلمعان سماوي وهتفت بالكلمات الأولى من المزمور التاسع بعد المئة وأسهبت فيها بنشيد رائع. وعمل العلي على تطبيق الكلمات الباقية على ابنه فاقتصر شرحها بنقطتين أساسيتين: تمجيد الابن وإتّضاع الخاطئ عدوّه. وشهادة لذلك وصورة مجده العتيد أراد أن يكون له بأورشليم ظفر رائع. وقضى سيّدنا وأمّع الباقي من الليل بأحاديث مختلفة.

وصباح أحد الشعانين توجّه المخلّص محاطًا بعدد غفير من الملائكة نحو أورشليم وكانوا يمجّدون محبّته للبشر، وروى الإنجيليون الاستقبال الظافر الذي هيّأه له الناسن وهتافات الجموع الحماسية: مبارك الملك الآتي باسم الرب! هوشعنا لابن داود!

ظاهريًا كان يعوزه كل شيء لهذا الاحتفال الظافر. لقد كان آتيًا على جحش صغير دون أبّهة. ولكن إرادة الله كانت أن تُقدّم له جميع القلوب، في هذه اليوم، التمجيد الرائع. ومن بيت عنيا، حيث بقيت العذراء الكليّة القداسة، شاهدت جميع تفاصيل هذا الاستقبال وسمعت هذا الصوت من الآب السماوي الذي كان واضحًا لجميع الحضور: “لقد مجّدتك وسأمجّدك من جديد”.

وأراد العليّ أن يكون لهذا الظفر امتداد عجيب، فحمل رئيس الملائكة ميخائيل البشرى إلى اليمبوس حيث كانت الرؤيا لجميع ما كان يحدث في أورشليم وحيث مجّدوا بالأناشيد انتصار الفادي على الخطيئة والموت والجحيم. وفوق ذلك، إنّ كل من كانت له معرفة بيسوع المسيح، ليس فقط في فلسطين ولكن في مصر وبأي مكان آخر، حصل على نعمة إلهية فرّحته وزادت إيمانه وفضيلته.

ولم يسمح الرب بأن يشوب يوم التهليل هذا أية ظلمة من الموت. ولذلك لم يمت أحد في ذلك النهار، كما أنه لم يسمح أيضًا للشياطين بأن يحوزوا على أية غلبة طيلة دوام هذا الظفر: فقد زُجّوا جميعًا في دركات النار الهاوية المحرقة. وظلّوا هناك يومين مضطربين تخزيًا وغيظًا. وعبّر لهم لوسيفورس عن خوفه من أن يكون هذا الظافر المدهش بأورشليم “هو المسيح”. وقال: “في هذه الحال، عوض أن نحرّض اليهود على قتله كما فعلنا سابقًا، يجب بالأحرى أن نمنعهم عن ذلك لأنه بموته سيُنقض مملكتنا ويخلّص العالم”.

وبعد هذا القرار ظهر إبليس بشكل منظور ليهوذا ليُحوّله عن خطّته المجرمة ويقدّم له كل ما يريد من مال إن هو تراجع عنها. ولكنّ الخائن البغيض وقد تعرّى من النعمة الإلهية تشبّث بقراره. وعندئذٍ أوحى الجحيم لبعض الفريسيين أن يؤجّلوا فكرة موته إلى ما بعد الفصح وذلك على أمل منع الأحزان التي تفاقمت على امرأة بيلاطس، ومنع هذا الحاكم الضعيف من مقاومته لحكم كان يعتبره انتهاكًا صارخًا للعدل.

هيّأ سيّدنا يسوع المسيح الرسل طيلة الأيام الثلاثة التالية لانتصاره بالشعانين، وكان يكلّمهم عن سرّ الصلب العظيم أثناء سفره معهم في اليومين الأولين إلى أورشليم ليُعلّم الجموع. وبالأخص أفاض على أمّه القدّيسة التي قضى ما تبقّى له من الوقت معها، أنوار الفداء التي كان هدفها الأسمى تمجيد الله.

إرشادات العذراء الكليّة القداسة

يا ابنتي! عليك أن تحبّي المشقّات كثيرًا لأن أعظمها بالنسبة لك هي لا شيء لأن الله لا يُحزن أحدًا إلا لكي يفرّحه بمواهبه. وكشهادة على هذه التعزية قدّم ابني الإلهي أثناء التجلّي لأبيه السماوي، بعد أن اتّضع بحضرته، هذه الصلاة التي لم يعرفها سواي: “إجعل أجساد الأموات الذين يتألّمون من أجل حبّي يشاركون بمجد جسدي كلٌّ حسب استحقاقه”.

وإذا كان أقلّ عمل جسدي يستحق الإكليل فكم سيكون جميلًا إكليل الأشخاص الذين يتكبّدون الآلام الكبيرة، ويغفرون الإهانات ولا يتأثّرون إلا بالأعمال الصالحة كما تصرّفنا نحن مع يهوذا، فابني لم يحفظ له فقط شرف الرسولية بدون مرارة بل عامله بلطف حتى أسلم هو نفسه لعدم استطاعته العودة إلى الصلاح واستسلم للشيطان..

ما نفع تصفيق العالم الباطل، إن الله وحده يشرّف حقًّا الذين يستحقّونه. ولذلك لم يسمح ابني القدّوس بانتصاره في أورشليم إلا أن يُظهر قوّته الإلهية ويجعل آلامه أكثر ضعة ويعلّم الناس هكذا؛ إنه يجب أن لا يتقبّلوا الشرف الأرضي من أجل أنفسهم، ولكن من اجل نهاية أسمى، إليها يعود كل شيء كمثل مجد العلي.

وبما أني أرى أنك تريدين أن تعلمي لماذا لم اكن معه في هذا الإحتفاء فأريد أن أُشبع رغبتك. بما أنه ترك لي مسبقًا الخيار رجوته أن يتركني في بيت عنيا لكي يأخذني فيما بعد إلى أورشليم عندما يعود إليها ليتألّم ويموت، لأنني ظننت أنه يُسرّ بالأكثر أن أقدّم نفسي لمشاركته في عار آلامه أفضل من أن أشاركه في شرف انتصاره. لأنه كان سيعود إليّ شيء من هذا الشرف لكوني أمّه ولكني لم أكن أرغب بشيء من ذلك. وليس لي طبعًا أية حصة بالألوهية التي يعود إليها هذا الشرف وجميع ما كان سيحصل لي لن يزيد شيئًا من مجده.

لكِ من ذلك أمثولة خاصة تجعلك تشعرين باشمئزاز نحو الشرف الارضي الذي ليس هو في النتيجة إلّا باطل الأباطيل وكرب للنفس؛

اشترك بالنشرة البريدية للموقع

أدخل بريدك الإلكتروني للإشتراك في هذا الموقع لتستقبل أحدث المواضيع من خلال البريد الإلكتروني.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق